ثم قال الله تعالى بعد ذلك:{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[النساء:٢١].
(وكيف): هذا استفهام إنكاري، وقوله تعالى:(أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) يبين أن هذا أمر عظيم، أن تفضي إليك المرأة بجسدها وتفضي إليها بجسدك، وتحصل هذه العلاقة بينك وبينها وتلك الثقة، ثم تسلب منها المهر مرة ثانية! ولذلك اختلف العلماء في معنى الإفضاء، فقال بعضهم: أن يكشف وجهها، كما جاء في الحديث:(إذا كشف وجهها ونظر إليها؛ فقد وجب المهر).
وقيل: المراد بالإفضاء: أن تنزع ثيابها وينظر إلى عورتها، فهل يستطيع أحد أن يتزوج امرأة ثم ينظر إلى داخل جسدها، ثم يفكر هو دون رغبة منها هي في طلاقها، ثم بعد ذلك يقول: أعطيني هذا المهر بعد هذا النظر، وبعد الميثاق الغليظ الذي أخذته هذه المرأة على هذا الرجل وهو عقد النكاح؟! وقيل: مجرد النظر إليها.
وقال بعضهم: هو الخلوة.
وقال بعضهم: هو الجماع، فإذا جامعها يستقر الأمر.
ولكن الأولى أن نقول: هو الخلوة؛ لأنه إذا خلا بها وأغلقت الأبواب بينه وبين الناس معها فقد أفضى إليها، وحينئذ يحرم عليه أن يأخذ المهر إذا كان الطلاق برغبته هو.
والإفضاء مأخوذ من الفوضى؛ لأن الفوضى معناها: اختلاط الأمر، نقول: يعيش العالم في فوضى، أي: في اختلاط من الأمر، والمراد بالإفضاء: الفوضى، أي: خلوه بها وخلوها به بحيث لا يكون بينهما أمر حاجز.
(وَأَخَذْنَ)، أي: أخذت النساء منكم، (مِيثَاقًا غَلِيظًا)، والميثاق الغليظ -والله أعلم- المراد به عقد النكاح، فإنه ميثاق غليظ، كما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حيث قال:(فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بعهد الله)، وعلى هذا فإن هذا الميثاق الغليظ قول الولي: زوجتك هذه المرأة، فتقول: قبلت، هذا ميثاق غليظ يزيل كل الحواجز بين هذا الرجل وتلك المرأة، ثم إذا بهذا الرجل الذي أفضى إليها ويرغب في زواج امرأة أخرى بدلها، ويعزف عنها، ولربما أنه تمتع بها، ولربما أنها أنجبت له من الأولاد ما أنجبت، ثم إذا به يريد أن يأخذ هذا المهر بعد أن تمتع بهذه المرأة مقابل هذا المهر، فهذا أمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.