قبسات من حياة موسى عليه السلام أجيراً
ولما علم رجل مدين أن موسى عليه الصلاة والسلام يتصف بالقوة والأمانة اتفق معه على أن يكون راعياً للغنم مدة ثماني سنين، وإن أتم عشراً فذلك فضل من موسى عليه الصلاة والسلام وليس بواجب، أما الأجرة فإنه يزوجه إحدى ابنتيه.
وليس عجيباً أن يكون مهر هذه البنت خدمة تساوي عشر سنوات أو ثماني سنوات؛ لأنها امرأة صالحة، وحينما تضطر إلى الخروج تخرج على استحياء، وحينما تريد أن تكلم الرجال للحاجة والضرورة إنما تكلمهم على استحياء، ولا تسقي حتى يصدر الرعاء، ومن هنا ندرك الفرق الشاسع بين المرأة الساقطة والمرأة الكريمة، فالمرأة الساقطة لا تساوي شيئاً في مهرها، ولذلك لا عجب حينما نسمع أن المرأة في بريطانيا التي سقطت في أوحال الرذيلة أصبحت لا تساوي جنيهاً إسترلينياً في مهرها، وأن المرأة في البلاد المحافظة يبذل في سبيل الحصول عليها الشيء الكثير، فحينما تكون هذه المرأة كريمة محافظة على دينها وأخلاقها فإنها تستحق أعظم مهر، ولا يعني ذلك أن الأمة يجب أن تغالي في المهور بمقدار تمسك المرأة بدينها، بل إن الأمة في عصرنا الحاضر بصفة خاصة مطالبة بتيسير تكاليف الزواج وتقليل المهور، وذلك لتعدد وتنوع الوسائل التي تهدف إلى إبعاد الشباب عن دينهم، وإفساد أخلاقهم، ونشر الفاحشة في أوساطهم، فهناك الإعلام المدمر، وهناك المجلات والصحف السقاطة، وهناك الرفقة المنحرفة، ومن أنجع الحلول لتخليص الشباب من ذلك هو تحصينهم بالزواج.
وكثيراً ما يشتكي العمال من أصحاب العمل الذين يهضمون حقوقهم، ولربما لا يؤدون رواتبهم وأجورهم، ولربما ينهبون عرقهم، ولربما يستغلون ضعفهم كونهم في بلاد غير بلادهم وفي غربة، ثم يؤدي ذلك إلى ظلم عريض وشر مستطير، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) وليس معنى ذلك أعطاء الأجير أجره وهو في حال العرق، ولكن المقصود هو المبادرة في إعطاء الأجير أجره، وعدم ظلمه بتأخير الأجر الذي يستحقه، وقد جاء الوعيد العظيم من الله تبارك وتعالى فيمن ظلم أجيره بأخذ شيء من حقوقه، جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن الله عز وجل: (إن الله عز وجل يقول: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة) وذكر منهم (رجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره).
إن الشريعة الإسلامية كفلت حقوق العمال كاملة غير منقوصة، بخلاف الشيوعية التي تدعي المحافظة على حقوق العمال، فالإسلام يأمر بأن يعطى الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، ويأمر صاحب العمل أن لا يهضم هذا الأجير شيئاً من حقه، كما أن صاحب العمل يطالب الأجير نفسه أن يؤدي الحق الذي التزم به، ولذلك الله تعالى يقول: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ} [القصص:٢٩] أي أن موسى عليه الصلاة والسلام التزم لرجل مدين بالوفاء بحقه كما التزم رجل مدين بأداء أجره، فسلم له زوجته التي اتفق معه على أن يكون مهرها خدمة عشر سنين.
فيجب على الأمة الإسلامية أن تحافظ على هذه العقود التي تبرمها، سيما حينما يشهدون الله عز وجل عليها، ولذلك لما أبرم العقد بين رجل مدين وبين موسى عليه السلام أشهد الله عز وجل على هذا العقد فقال: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:٢٨]، فأصبح الوفاء بهذا العقد أمراً لازماً لكلا الطرفين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:١].
إذاً معنى ذلك أن نظام العمل وحقوق العمال وأحكام الإجارة والاستئجار وأداء الأجور كل ذلك موجود في الشريعة الإسلامية، وليس الدين الإسلامي محصوراً في العبادات فحسب كما يظنه طائفة من الناس الذين لم يعرفوا الإسلام حق المعرفة، فقد ابتلي عصرنا الحاضر بمن يسمون بالعلمانيين قاتلهم الله أنى يؤفكون، وهم في الحقيقة لا يستحقون هذه التسمية، حيث إنهم ينسبون أنفسهم إلى العلم، وهم أجهل الناس بتعاليم الإسلام وتشريعاته، ويريد العلمانيون إقصاء الشريعة الإسلامية عن جميع مجالات الحياة المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وحصر الدين في العبادة، وشعارهم في ذلك: (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) وهذا المعنى الذي يصرح به العلمانيون ليس قائماً في الحقيقة، فهم لم يتركوا الإسلام ليكون منهج عبادة، بل هو مطارد داخل دور العبادة، وكذلك داخل مساجد المسلمين، لا يتنفس أحدهم إلا وتحصى عليه أنفاسه في كثير من الأحيان.
والإسلام جاء ليكون منهج حياة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وتعبدياً، ولا يمكن أن يصلح حال المجتمع وتستقيم أوضاعه إلا بتحكيم الشريعة الإسلامية في كل صغيرة وكبيرة، وفي كافة مجالات الحياة المختلفة، فدين الإسلام منهج حياة متكامل، ولذلك تجد أن آيات القرآن الكريم حينما تتحدث عن النواحي الاجتماعية والعلاقات الزوجية فإنه يتخلل ذلك الحديث عن العبادة، فمثلاً: في سورة البقرة تحدثت بعض آياتها عن أحكام تتعلق بالزوجة مع زوجها، ثم تخلل ذلك الحث على عبادة من العبادات، قال الله تعالى: ((وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [البقرة:٢٣٧] ثم قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٣٨ - ٢٣٩]، ثم تعود الآيات مرة أخرى للحديث عن الحياة الاجتماعية والأحكام المتعلقة بين الزوجين {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:٢٤٠].
ونجد أن القرآن الكريم يتحدث أيضاً عن السياسة، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:٣٨]، وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:١٥٩]، ويتحدث ويحذر من الحكم بغير ما أنزل الله فيقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤]، ويقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:٤٥]، ويقول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:٤٧].
ويتحدث كذلك عن الأنظمة الاقتصادية فيقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:٦٧].
فهذا يدل دلالة واضحة على أن الإسلام كل لا يتجزأ، وأنه يجب على المسلمين أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:٢٠٨].
وبعد الانتهاء من استعراض حياة موسى عليه الصلاة والسلام قبل النبوة نقول: إن على الأمة الإسلامية أن تأخذ من هذه القصص العظة والعبرة، وأن تتخذ منها منهج حياة؛ لأن الله سبحانه وتعالى إنما أوردها من أجل ذلك، وحتى لا تقع هذه الأمة فيما وقعت فيه الأمم السابقة التي تنكبت عن المنهج الصحيح الذي رسمه الله عز وجل لها، ثم كانت العاقبة العذاب والنكال والخسارة والبوار، فإن في أخبار الأمم ما يكفي للعظة والعبرة {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:٤٠].
والقوى المادية التي تعلقت بها تلك الأمم من دون الله عز وجل ما استطاعت أن تحميها قيد أنملة من عذاب الله عز وجل حينما نزل، ولذلك الله تعالى يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:٤١]، فعلينا وعلى ولاة الأمر الذين استرعاهم الله عز وجل أمور المسلمين العامة والخاصة، وعلى كل فرد من أفراد هذه الأمة أن نتقي الله، فإن العاقل من اتعظ بغيره، وإن لله عز وجل سنناً لا تتخلف {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:٦٢].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا وسيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.