[السبب الثاني: الإكثار من ذكر الله وخاصة في ساحة المعركة]
السبب الثاني لتنزل النصر: ذكر الله، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥] فذكر الله سبحانه وتعالى من أكبر أسباب النصر، ولذلك كانت الحصون تهتز وتتساقط ويستسلم أهلها حينما يسمعون تكبير المسلمين قائلين: الله أكبر، وكان كلما استعصى فتح حصن من الحصون في عهد الرسول عليه السلام وفي عهد سلفنا الصالح -في عهد الفتوحات- كان ترديدهم (الله أكبر) أشد من القنابل الموجودة في عصرنا الحاضر، إذ كانت تهتز لها الحصون، وتتساقط بإذن الله عز وجل، ويدخلها المسلمون فاتحين.
وهذه القوة البشرية الموجودة في الأرض هي تحت تصرف الله عز وجل، وفي قبضته، والله تعالى أكبر منها وأكبر من قوى الدمار والشر التي يملكها البشر؛ ولذلك لابد من ذكر الله عز وجل سواء كان الذكر باللسان أو بالجوارح أو بالقلب.
فذكر القلب: أن يتعلق بالله سبحانه وتعالى ويتوكل عليه.
وذكر الجوراح: بالعبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى.
وذكر اللسان: اللهج بالثناء عليه وتسبيحه وتحميده.
أما إذا كان المسلمون قبل المعركة في لهو ولعب حتى يفاجئوا بساعة الصفر، فلن يتحقق النصر لأمة هذه حالها -في مثل هذه الظروف- ولن يتم النصر إلا إذا تعلقت هذه الأمة بالله عز وجل.
ولذلك يقول الله تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:٤٣] فالتضرع هو المطلوب في مثل هذه الظروف، فعلينا دائماً أن نرفع أكف الضراعة إلى الله عز وجل: يارب! يا رب! هذا هو التضرع.
يقول الله تعالى عن الأمم التي أنزل بها بأسه وعذابه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:٧٦].
فنعلم يقيناً أن الكفار والطغاة والظلمة والمتجبرين لا يتسلطون على بلاد المسلمين إلا بتسليط من الله عز وجل، وهذا عذاب من عند الله؛ لأن الأمة الإسلامية قد ارتكبت كثيراً مما حرم الله عز وجل، وإن إرهاصات هذا العذاب قد بدأت، ولعلها تكون تربية من الله عز وجل وإنذاراً لهم لعلهم يرجعون، فإن الله تعالى يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١] فالفساد موجود في البر والبحر، وحتى في الجو.
وهذه الأحداث ربما ترد الناس إلى دين الله عز وجل، وتعيدهم إلى الحق، وتعلمهم أن النصر لا يأتي إلا من عند الله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١] و (لعل) إذا جاءت من الله فليس معناها الترجي ولا التوقع كما نعرفها في لغة العرب، وإنما معناها: تحقق الوقوع وتأكيده، فمدلول الآية تأكد رجوع الخلق إلى الله إذا أذاقهم بعض العذاب على ما اجترحوه من الشر، وهذه بشرى من الله سبحانه وتعالى، حيث بين الله أن الناس عند الشدة يلجئون إلى التوسل والخضوع بين يدي الله عز وجل.
بل إن المشركين كانوا إذا ركبوا في البحر وهبت ريح عاصف، واضطربت السفينة يفزعون إلى الله عز وجل، ولا يفزعون إلى أحد سواه، حتى الأصنام التي نصبوها حول الكعبة -وعددها ستون وثلاثمائة- لم يكونوا يفزعون إليها في حال الشدة، وإنما يرجعون إليها في حال الرخاء، أما في الشدة فكانوا يفزعون إلى الله عز وجل وحده، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٦٧]، وقال جل في علاه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:٦٥] فهذا حال أولئك المشركين الذين يعبدون الأوثان، وأولى بها أن تكون صفة من صفات المؤمنين الموحدين.
ولكن لما فوجئت هذه المنطقة -أسأل الله أن يحفظها بحفظه- بهذه الأحداث على أيدي هؤلاء الطغاة الذين يريدون بها سوءاً، ويأبى الله إلا أن يتم نوره؛ رأينا أناساً فزعوا إلى كل شيء إلا إلى التوبة، فادخروا الأرزاق والأطعمة والسرج والأشياء التي تتخذ احتياطاً للحرب دائماً وأبداً كما هي العادة، ولكن لم يفكر أحد أن يغير وضع بيته أو سوقه أو مجتمعه أو أهله أو زوجته أو ولده إلا من رحم الله، والخير كثير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، لكن الأكثرية الساحقة ما رأينا أحداً منهم فكر في تغيير شيء من واقعه؛ على كل المستويات: الرسمية والشعبية، وربما يكون هناك تغيير بعد هذه الأحداث؛ لأن سنة الله تعالى في هذه الحياة أن يؤدب ويربي هؤلاء الناس ويردهم إليه، كما قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١].
فإذا كان المشركون يرجعون إلى الله عز وجل في حال الشدة، فنحن أولى أن نرجع إلى الله عز وجل في مواجهة مثل هذه الأحداث، ولعلها من أحلك الفترات -في اعتقادي- التي مرت على هذا البلد منذ سنين طويلة.
فمن يراقب الموقف والأحداث فسيقول: إن هؤلاء الناس إما أن يكونوا شجعاناً شجاعة منقطعة النظير، وإما أن تكون القلوب قد ماتت، فإذا كانوا يسمعون بأن عدواً متربصاً مجرماً يملك قوة مبيدة من قوى الأرض المادية، ويهدد بلاد الإسلام، ورغم ذلك لا يزال المسلمون لا يغيرون من حال واقعهم؛ فهذه إما شجاعة منقطعة النظير! وإما غفلة شديدة رانت على القلوب! وكان ما كان؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فالأولى لنا أن نرجع إلى الله، فإن الرسول عليه السلام -وهو الذي غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- قام في ليلة بدر يجأر إلى الله عز وجل، مع أنه قائد الأمة، وليس هناك من يعبد الله في الأرض غيره وغير هذه المجموعة التي كانت معه عليه السلام، وسوى عدد قليل ممن بقي في المدينة، فقام عليه السلام يتضرع بين يدي الله، ويناشد ربه أن ينجز له ما وعده، ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض) إلى غير ذلك من الأدعية والتضرع بين يدي الله عز وجل، فكان يرفع يديه إلى السماء حتى كان يسقط رداؤه من على كتفيه، فيضع أبو بكر الصديق رضي الله عنه رداءه على كتفيه، ويقول: (يا رسول الله! ارفق بنفسك، فإن الله منجز لك ما وعدك).
لكن
السؤال
هل المسلمون اليوم يتضرعون بين يدي الله؟ وهل هناك تهجد في آخر الليل وبكاء بين يدي الله عز وجل وتضرع أم أن الغفلة ما زالت تضرب أطنابها في قلوب الناس؟ بل نطلب أقل من ذلك ونقول: هل منا من فكر أن يطهر بيته مما حرم الله من الأفلام والأغاني والموسيقى؟ فالله تعالى يقول: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:٤٥ - ٤٧] فيستمر النقص شيئاً فشيئاً حتى تنتهي النعمة.
ثم يبين الله تعالى في القرآن أن سنة الله في هذه الحياة أن يمتحن الناس بالمصائب والبلايا، فإذا لم يجد هذا الامتحان، ولم يرعوِ هؤلاء الناس، فإن الله تعالى يمتحنهم بالنعم والخيرات والأمن والاستقرار، فإذا لم تنفع الثانية جاء العذاب بعدها مباشرة.
وهاتان المرحلتان قد أدركتهما في عمري، وأكثر من في مثل عمري قد أدرك هاتين المرحلتين، فلقد كنا في شظف من العيش، وكنا في جوع ومسغبة حتى فجر الله لنا هذه الخيرات من تحت أقدامنا، وكنا في خوف وذعر حتى هيأ الله لنا الملك عبد العزيز رحمه الله، فوحد الجزيرة العربية في ظل الإسلام، وانتهت المرحلة الأولى، ثم جاءت المرحلة الثانية، وأصبحنا في رخاء ونعيم وأمن واستقرار، وإذا قيل لأحد منا: اتق الله يا أخي! أنت في نعمة، وكنت في جوع ومسغبة، يقول: أبي وجدي عاشا تلك الفترة، وقد انتهت! وقد جاء ذكر هذا الموقف كله في كتاب الله عز وجل، حيث قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:٩٤] والبأساء هي: الحروب والفتن وعدم الأمن، والضراء: الجوع والمسغبة، ثم قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:٩٥]، والمقصود بالسيئة هنا: الجوع، فأبدل الله مكان الجوع الشبع، حتى إن بعض الناس صار لا يعرف كم مقدار رأس ماله الذي لا يحصر، فصار يتقلب في الخيرات، والنعيم، والقصور، والترف، والرخاء، والطمأنينة.
قال: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ) المصائب، (الْحَسَنَةَ) النعيم، {حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:٩٥] أي: زادت الأموال وزاد الأهل وزادت القصور، فإذا قيل لهم: اتقوا الله {قَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:٩٥] فيحتج بأن الدنيا تتقلب، وليست هذه ابتلاءات من الله، زاعماً أن آباءه وأجداده ما عاشوا هذه النعمة التي يعيشها اليوم، فما كانت النتيجة؟ {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:٩٥].
فهذه نتيجة امتحانين وليس امتحاناً واحداً، وقد مرّ هذان الامتحانان بنا جميعاً، وأكثرنا قد أدرك هاتين الفترتين: الجوع والخوف، والشبع والأمن والطمأنينة.
ونحن نرى أنه منذ سنوات والعالم يُتخطف من حولنا، ونحن نعيش في ظل حرم آمن، فبمقدار ما طبقنا من شريعة الله عز وجل أعطانا الله من الأمن والرخاء والطمأنينة، وليس معنى ذلك أننا أمة بيننا وبين الله نسب! إنما هي سنة الله تعالى في الحياة: خط مستقيم مرسوم، من سار عليه أمن، ومن انحرف عنه يميناً أو شمالاً عُوقب، ولذلك يقول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥].