[تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)]
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤]، وفي قراءة: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤] ويوم الدين: هو يوم القيامة والجزاء، فمالك ذلك اليوم هو الله عز وجل، والله تعالى هو مالك الدنيا والآخرة، لكن ربما يكون هناك -كما هو معروف- ملك محدود الزمن والملكية لواحد من ملوك الدنيا، أو لأي واحد من عامة الناس، لكن هذا الملك في الحقيقة مدته محدودة أيضاً، لكن يوم الدين هو مملوك لله عز وجل وحده، وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل يوم القيامة يقول: ({لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْم} [غافر:١٦]؟ فلا يجبه أحد -حينما يفني هذه الخلائق- ثم يرد الله عز وجل على نفسه بنفسه ويقول سبحانه وتعالى {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:١٦]،)، فقد يكون هناك من ملوك الدنيا أو من عامة الناس من يملك شيئاً من هذه الدنيا، لكن يوم القيامة يستقل الله عز وجل بملكه فلا يملكه أحد سواه سبحانه وتعالى.
أيضاً الدين معناه: الجزاء، كما تقول العرب: كما تدين تدان، يعني: كما تحاسِب تحاسُب، أي: مالك يوم القيامة، وهو يوم المحاسبة أو يوم الجزاء؛ لأن يوم الدين هو يوم جزاء وليس فيه عمل، بخلاف أيام الدنيا فإنها أيام عمل وليس فيها جزاء، وقد يكون فيها شيء من الجزاء، فالله عز وجل قد يعطي شيئاً من الجزاء يعجله لبعض أوليائه في الحياة الدنيا، بخلاف أعدائه، فإن الله عز وجل يعجل لهم الجزاء كله في الدنيا، فمن عمل عملاً ظاهره الصلاح لكنه بدون نية وبدون إيمان؛ فإن الله عز وجل يعجل له جزاءه في الدنيا، ولا تبقى له في الحياة الآخرة حسنة واحدة، ولذلك يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:١٥].
وهذا هو ما نشاهده في عالمنا اليوم حينما نرى أقواماً كفروا بالله عز وجل، أو تمردوا على طاعته، أو عصوا، أو أسرفوا في المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، ثم نجد أن الله عز وجل يمدهم بالأهل والمال والبنين والصحة والعافية، وربما نشاهد بلادهم فيها من الخيرات أكثر مما هو في بلاد المسلمين، وعندهم من النعيم والرخاء أكثر مما في أيدي عباد الله المؤمنين، فلعل السر في ذلك -والله أعلم- أن الله تعالى عجل لهم حسناتهم؛ لأن الله تعالى يقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ} [هود:١٥]، و (نُوَفِّ): أي: نعطيهم أجرهم كاملاً غير منقوص: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:١٥ - ١٦] نعوذ بالله! {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:١٦]، أي: كان باطلاً في الدنيا وحبط أيضاً في الحياة الآخرة، فصنعهم يحبط في ذلك اليوم، وكان باطلاً في الحياة الدنيا لأنه غير مقبول عند الله عز وجل؛ لأنه لا يصاحبه الإيمان أو لا تصاحبه المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يصاحبه إخلاص العبادة لله عز وجل.
وهذا أيضاً هو معنى قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء:١٨]، أي: الحياة الدنيا بعمله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:١٨]، هؤلاء يأخذون جزاءهم في الدنيا، فيوم دينهم أي: جزاؤهم يأخذونه في الدنيا، أما المؤمنون فإن الله عز وجل قد يبعد عنهم رخاء الحياة الدنيا، فقد يعيشون فقراء أو محرومين أو معذبين أو مسجونين أو ما أشبه ذلك، ثم نجد أن الله عز وجل يدخر لهم ذلك في الحياة الآخرة؛ لأن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، بل إن الله عز وجل يقول: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:١٥ - ١٧]، يقول: كلا! أي: لا هذا أكرمه ولا هذا أهانه، فإن الإكرام والإهانة هو في الحقيقة في الدار الآخرة، أما في الحياة الدنيا فقد يكرم الله عز وجل من لا يستحق ذلك استدراجاً أو جزاءً على عمل قدمه في الحياة الدنيا، كأن يبني المدارس، أو يحفر الترع، أو يبني القناطر، أو ما أشبه ذلك مما ينفع الناس لكن بدون نية، فالله تعالى يجعل جزاءه في الحياة الدنيا.
أما المؤمنون فإن الله تعالى وإن عجل لهم شيئاً من ذلك في الحياة الدنيا، لكن الجزاء الأكبر مدخر لهم في الحياة الآخرة، وهذا معنى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤]، أي: مالك يوم الجزاء، فهو الجزاء الحقيقي.
كما أن في ذلك اليوم أيضاً جزاء الكافرين والعصاة، فإن كل واحد يأخذ جزاءه في تلك الدار إذا لم يتجاوز الله عز وجل عن سيئاته، كما يجزي المؤمنين بالجنة في الدار الآخرة، فإنه سبحانه وتعالى يجزي الكافرين بالعذاب وكذلك العصاة، إذا لم يتجاوز الله عز وجل عنهم؛ لأن الكفار مخلدون في النار، وعصاة المؤمنين تحت مشيئة الله عز وجل وإرادته، فإذا تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وإن ماتوا على معاصيهم فإن الله تعالى قد يعذبهم وقد يعفو عنهم، وإذا عذبهم فإنهم لا يخلدون في النار إذا ماتوا على الدين والتوحيد والطاعة لله عز وجل، وإن كانت عندهم ما عندهم من المعاصي ولو كانت كبائر لم يتجاوز الله عز وجل عنها.
إذاً: قول الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:٤]، أي: مالك يوم الجزاء، وعلى هذا فإن يوم الدين ويوم الجزاء هو يوم القيامة، والله تعالى مالك أيام الدنيا ويوم الدين، لكن ملك الدنيا قد يظن أحد من الناس أنه يملك فيه شيئاً، يملك بيته يملك أرضه يملك عقاره يملك أهله وماله وداره يملك الملك دولته ويتصرف هذا التصرف، لكن الملك المطلق يكون في يوم الدين لله عز وجل؛ لأنه لا يبقى ملك لأحد في ذلك اليوم إلا من يملكه الله عز وجل، كما قال الله عز وجل عن المؤمنين أنهم يقولون: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:٧٤]، وهذا هو التمليك المطلق الدائم، لكنه بتمليك الله عز وجل، أما ذلك اليوم فالذي يملكه ويملك التصرف فيه، ويملك أيضاً الجزاء، ويملك من يشاء ويحرم من يشاء هو الله عز وجل، ولذلك خص يوم القيامة بقوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
إذاً: الدين معناه: الجزاء والحساب، وهذا دليل على أن الله عز وجل هو الذي يحاسب الإنسان بنفسه، ويحاسبه بناءً على علمه أولاً، بما فعل الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وما سجلته هذه الصحائف التي سجلت على كل إنسان، كما جاء في الحديث: (إن الله عز وجل ينشر على عبده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، وهي صحائف الأعمال، فيقول الله عز وجل: أتنكر من ذلك شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ ألك عذر؟ ألك حسنة؟ فيقول الإنسان: لا والله يا رب! فيظن أنه قد هلك، فيقال: بلى، إن لك عندنا حسنة، إنك لا تظلم، فيؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتوضع في كفة، وتوضع تلك السيئات العظيمة كلها في كفة، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات)؛ لأن هذا الإنسان حقق لا إله إلا الله وعمل بمقتضاها.
وعلى هذا فإن الجزاء من عند الله عز وجل، والله تعالى هو الذي يحاسب هذا الإنسان، حتى إن الله عز وجل كما جاء في الحديث: (يحاسب عبده ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، وبالرغم من كثرة الخلائق يوم القيامة فإن الحساب يكون في لحظة واحدة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:١٩٩]، لأنه قد اطلع، وقد أودع الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا شهوداً تشهد على هذا الإنسان: فأولها كما ذكر الله عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس:٦١].
الأمر الثاني: أولئك الملائكة، الذين يقول الله عز وجل عنهم: {كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:١١ - ١٢].
الأمر الثالث: الأرض، فإن الأرض شاهدة على الإنسان؛ لأنه لا يمكن أن يفعل الإنسان شيئاً إلا على وجه الأرض، حتى لو كان في جو السماء، فالأرض مطلعة وتشهد عليه يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:٤]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل علي فلان كذا في يوم كذا وكذا، وعمل علي فلان كذا في يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها).
أيضاً جعل الله عز وجل هناك شهوداً آخرين: كالناس يشهد بعضهم على بعض، كما جاء في الحديث: (مرت ذات يوم جنازة فأثنى عليها الناس خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه).
أيضاً: الشاهد الأكبر بعد الله عز وجل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء في قول الله عز وجل في سورة النساء: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيد