[حب المركز وسوء الظن بالله]
الأمر الأخير من هذه الأمور: حب المركز وسوء الظن بالله عز وجل بأن الأجل بيد غير الله أو أن الرزق بيد غير الله عز وجل، وهذه من أكبر البلايا التي ربما تصرف الإنسان عن ربه إلى المخلوقين، مع أن الله تعالى أخبر بأن هناك كتاباً مؤجلاً فقال: {كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:١٤٥]، {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:٤٩]، ولا يستطيع أحد أن يزيد في عمر الإنسان أو ينقص منه لحظة؛ لأنه مقدر من عند الله عز وجل، وحتى لو أصيب من قبل المخلوقين فهذا أجله الذي كتبه الله عز وجل عليه، ففيم يكون الخوف؟! أما الرزق فإن الله تعالى قد التزم لكل واحد من المخلوقين برزق أياً كان هذا المخلوق، حتى لو كان حشرة في جوف صخرة في قعر البحر، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:٦]، وحب المركز والمحافظة عليه قد يؤدي بهذا الإنسان إلى أن يتراجع عن دينه، أو أن يغفل عن ربه سبحانه وتعالى؛ حرصاً على هذا الأمر؛ لذلك فإني أختم حديثي هذا بقصة رجل من التابعين رضي الله عنه، عرضت عليه هذه المغريات لتصرفه عن الجنة وعن الله عز وجل فرفضها جميعاً، وقال بلسان الحال والمقال: أنا مسلم أبغي الحياة وسيلة للغاية الكبرى وللميعاد هذا الرجل الذي يحدثنا عنه التاريخ هو عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، نختصر قصته في كلمات يسيرة: عبد الله بن حذافة كان من القادة الذين اشتركوا في قتال الروم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان رجلاً شجاعاً ذكياً، توجد فيه كل صفات الرجولة، وقع في أسر الرومان، فجيء إلى قيصر الروم وقيل له: أيها الملك! إن في سجنك رجلاً لو كسبته لكان مكسباً عظيماً.
فقال: جيئوني به، فلما مثل أمام قيصر قال له: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي! الآن يتنصر الكثير من المسلمين بأسباب تافهة، اثنا عشر مليوناً تنصروا في إندونيسيا وحدها في مدة ثلاثين أو خمس وعشرين سنة، والدعايات التنصيرية الآن تسير في الأرض، ولربما يخدمها من أبناء جلدتنا.
لو تنصرت -انظروا يا إخوان كيف الإغراء- شاطرتك ملكي! يعني: تكون شريكاً لي في حكم بلاد الروم.
فقال: اخسأ يا عدو الله! والله لو كانت لي الدنيا كلها بأسرها ما تركت شيئاً من ديني.
إذاً: هذه مؤامرة، مؤامرة المركز عرضت على هذا الرجل المؤمن، فرفض هذا المركز لأنه سيكون على حساب دينه، بخلاف الذين يتنازلون عن كل دينهم مقابل مركز أصغر من ذلك بكثير.
فقال: ردوه إلى السجن، وزيدوا في الثقل عليه، ثم استشار الخبراء والجلساء ماذا يفعل بـ عبد الله بن حذافة؟ فقالوا: الشهوة، فإنه شاب حدث قوي الجسم، له شهور عن أهله، لو عرضت عليه الجنس الذي يعرض الآن على كثير من الناس في وسائل الإعلام وفي الأفلام، حتى في الطيران بين السماء والأرض يعرض الآن.
قالوا: الجنس لو عرضته على هذا الرجل فربما تكسبه.
قال: جيئوني بأجمل فتاة في بلادنا.
فجيء بها فأغريت بكل المغريات لو استطاعت أن تفتن هذا الرجل المؤمن.
يقول المؤرخون: فتجردت عن كل ملابسها، ودخلت على عبد الله وهو يتلو القرآن، وهو مكبل بالأغلال، فوقعت في أحضانه، فقال: معاذ الله! إنه ربي، فهرب منها وصارت تلاحقه، وكلما اتجه إلى جهة ببصره لحقته، فانحرف ببصره عنها، ولم تستطع أن تنال منه نظرة واحدة؛ لأن الرجل قد امتلأ قلبه بخشية الله عز وجل، قالت: أخرجوني، فقابلها الصحفيون عند الباب: ماذا فعلت؟ قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر! والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر! فتحير قيصر الروم الآن، يريد أن يستعيد ماء وجهه مع هذا الرجل الغلام الذي استطاع أن يسقطه أمام قومه، فقالوا له: الموت، وكل الناس يخافون من الموت، فجيء بقدر عظيم وأشعلت تحته النار حتى تحول هذا القدر إلى قطعة من نار فقال: جيئوني بـ عبد الله بن حذافة ورجل من الذين كان يأنس بهم كثيراً، فجيء بـ عبد الله بن حذافة ورجل من الصالحين معه، فأوقف الاثنان على حافة القدر، فأمر قيصر أن يؤخذ الرجل -أي: صديق عبد الله بن حذافة - ويرمى في القدر، فرمي في القدر فطار دخانه، وكان يراقب عيني عبد الله؛ فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله رضي الله عنه وهو ينظر إلى صديقه المؤمن وقد احترق لحمه وعظامه، فظن أنه كسبه، فقال: يا عبد الله! خفت من الموت؟! أنت ستكون بعده، قال: اخسأ يا عدو الله! والله ما بكيت خوفاً من الموت، وما جئت إلى بلادك إلا أبحث عن الشهادة فكانت أمنيتي، ولكن دمعتي التي رأيتها حينما سبقني صاحبي هذا إلى الجنة وإلى الدار الآخرة، والله لقد كنت أسابقه إلى الجنة وكنت أتمنى أن أسبقه إلى الله عز وجل، فكان إذا صلى ركعتين في الليل صليت أربع ركعات في جوف الليل المظلم، وكان إذا صام يوماً في الهاجرة صمت يومين، وكنت أتمنى أن أسبقه، فالآن بكيت حينما رأيتني بكيت لأن صاحبي سبقني إلى الجنة.
فتحير الرجل وعرف أنه لا يستطيع أن ينال من هذا الرجل منالاً إلى آخر القصة.
أيها الإخوة! حينما نتحدث عن الوعورة في طريق الجنة لا نقنط الناس من رحمة الله عز وجل، ولكن نريد أن يفهم الناس أن في طريق الجنة عقبات، وأنه لا يقتحم هذه العقبة إلا ذو عقل عظيم، وذو رأي سديد، إلا من وفقه الله عز وجل لسعادة الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ييسر لي ولكم طريق الجنة والسعادة، وأن يهدي قادة هذه الأمة وفي مقدمتهم ولاة أمر هذه البلاد، أن يكونوا عوناً للناس إلى طريق الجنة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.