[التفكر في ملكوت السماوات والأرض]
العامل الثاني: النظر في ملكوت السماوات والأرض.
هذا النظر الذي ينشأ عنه إيمان كالجبل الأصم الثابت الذي لا يستطيع أحد أن يزحزحه عن مكانه، وهناك فرق بين الإيمان الوراثي -الذي سنتحدث عنه إن شاء الله مع السلبيات- والإيمان الذي نشأ عن تفكير ورويةّ، وحينما نقول: (تفكير وروية) لا نقصد التفكير في ذات الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى فوق ذلك كله، وإنما تفكير في قدرة الله عز وجل، وفي آثار صنعه الذي وضعه في هذا الوجود وفي هذا الكون حتى يكون ذلك سبيلاً للإيمان.
هذا التفكير الذي يقول الله عز وجل عنه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس:١٠١]، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:١٨٥]، والله سبحانه وتعالى دائماً يخاطب العقول؛ لأن هذه العقول هي التي تنظر إلى هذه الأشياء نظرة تفكير، يقول الله تعالى: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:٣ - ٤].
هذا النظر في ملكوت السماوات والأرض هو الذي يعطي هذا الإنسان أكبر دليل على وجود خالق متصرف قادر واحد ليس معه متصرف أبداً، وحينئذٍ يرجع بنتيجة واحدة، وهي أنّه ليس في هذا الكون متصرف إلا الله عز وجل.
ونضرب مثالاً لذلك: إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان يشك في الله تعالى أبداً، حتى في أيام صبوته وأيام شبابه قبل أن يكون رسولاً، ولكنه ينظر إلى هذا الكون العظيم نظرة تفكير ليثبت لهؤلاء الناس أنّه ليس في هذا الوجود من يستحق أن يُعبد إلا الله سبحانه وتعالى، ثم يرجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنتيجة حتمية، وهي أنه في ذات الله عز وجل لما صَلُبَ إيمانه وقوي جانبه أصبح يتحدى أقرب الناس منه، وهو أبوه الذي يعتبر ألصق الناس به، ومن منا يستطيع أن يكافح أباه إلى ما يكون مخالفه في دينه، وهو يتحدى العاطفة ويتحدى كل الأشياء التي تفرض عليه أن يسالم المجتمع.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذكر الله لنا قصته في سورة الأنعام، كما يقول الله عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:٧٨ - ٧٩] إلى أي شيء انتهى به الأمر؟ قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:٧٩] وتحدى كل ما يحيط به، حتى ذوي القربى الذين ظلمهم أشد مضاضة، كما يقول الشاعر: وظُلْم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهندِ فأصبح يتحدى أباه ويقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:٤٥].
ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما أعطاه الله تعالى هذه الحجة على قومه أصبح إيمانه لا ينظر من خلاله إلى أي عذاب يحدث في هذا الوجود إلا كما ينظر الإنسان إلى وسيلة من وسائل المتعة.
فلم يبال حتى أشعلت له نار، هذه النار -كما قال عنها المفسرون-: كانت ناراً عظيمة، سماها الله تعالى جحيماً، فكان الطير إذا مرّ من السماء فوق هذه النار يحترق وهو في السماء، وإبراهيم ينظر عليه الصلاة والسلام إلى هذه النار فيستهين بها؛ لأنها دون نار الحياة الآخرة، حتى إذا ألقي في النار أصبح ذلك الإيمان قد غير له نواميس الحياة وأنظمة الوجود، فأصبحت هذه النار بأمر الله عز وجل برداً وسلاماً على إبراهيم، وهكذا الإيمان يغير كل أنظمة هذه الحياة التي ربما تتعقد أمام عيني هذا الإنسان حينما ينظر إليها، ثم إذا بها تتحول إلى خلاف ما كان يتوقعه هذا الإنسان.
فهذا مَثَل للنظر في ملكوت السماوات والأرض، ولذلك تجد فرقاً شاسعاً بين الإيمان الوراثي الذي يأخذه الإنسان عن أبيه وأمه وأسرته ومجتمعه وبيئته والإيمان الذي يكون وليد البحث والتفكير والقراءة والنظر في ملكوت السماوات والأرض، حينئذٍ يصبح هذا الإيمان كالجبل.
فلا بد من هذا النوع من الإيمان، سيما في فترة الامتحان التي يعيشها العالم الإسلامي، أو الشبيبة الناشئة التي أصبحت الآن بين الجاهلية والإسلام، بين دواعي النفس والشهوات والمغريات العظيمة التي يسيل لها لعاب كثير من الناس وبين داعي الإيمان والجنة الذي ينادي هؤلاء الناس إلى جنة عرضها السماوات والأرض.