للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشهوة والجنس]

وهناك أمر آخر أيضاً، وهو الشهوة والجنس، فربما تتعرض لهذا الإنسان لتصرفه عن دينه وتفسد عليه دينه، فإما أن يكون ذلك الرجل قوياً متين الإيمان فيقول: معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي.

وإما أن يضعف أمام هذه الشهوة.

وأمام هذه الشهوات الثلاث تحضرني قصة لرجل عظيم الشخصية، هذا الرجل عرضت عليه هذه الشهوات الثلاث في وقت هو أحوج ما يكون إليها، لكنه رفضها خشية من الله عز وجل وبحثاً عن سعادة أفضل وحياة أطول وأبقى.

يروي لنا المؤرخون عن إحدى الغزوات في بلاد الروم في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عدداً من المسلمين وقع في أسر الرومان، وكان من بينهم الصحابي الجليل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فوقع في الأسر، ووصلت الأخبار إلى قيصر الروم أن في سجن الرومان رجلاً شهماً عجيباً في خلقه ورجولته وشجاعته وحميته.

ففكر قيصر الروم في أن يسلب منه دينه بثمن بخس، فقال: علي به.

فجيء بـ عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، ووقف أمام ملك الروم وهو مكبل بالأغلال، والفرق بعيد بين واقعه وبين ما يعرض عليه، فقال له قيصر الروم: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي.

فانظروا إلى هذه الفتنة.

إنها فتنة المركز، فيصير ثاني اثنين في ملك بلاد الروم، فتنة يسيل لها لعاب أكثر الناس بطبيعتهم وفطرتهم البشرية، ولا يحمي النفس من هذا الموقف إلا الإيمان، فقال: والله لو كانت الدنيا لي بأسرها ما تركت شيئاً من ديني.

فهذه فتنة وعقبة اجتازها عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، وما كان أحد يظن -إلا المؤمنون- أن عبد الله بن حذافة سوف يرفض ملك بلاد الروم وهو رجل مكبل بالأغلال مسكين جيء به من بعد سجن طويل ليتحول دفعة واحدة إلى أن يكون مشاطراً لقيصر الروم في ملكه، لكن الإيمان أقوى من ذلك، فانتظار الجنة والسعادة الآخرة فوق هذا المستوى كله.

فقال: ردوه إلى السجن، وزيدوا في عقوبته.

فأعيد رضي الله عنه إلى السجن، وزادوا في عقوبته.

ثم فكر أخرى فوصل إلى محاولة إسقاطه عن طريق الجنس، الذي يعرض على الناس اليوم بشكل مرعب ومخيف، وحينما يعرض الجنس لا يراد به فقط مجرد زنا -نعوذ بالله- أو مجرد انحراف خلقي، بل المقصود انحراف العقيدة؛ لأن الإنسان إذا سقط فيما حرم الله اضطربت عقيدته، وبعد عن الله عز وجل؛ ولذلك فإن من مخططات الكفار أن يَدَّعوا حقوق المرأة وحرية المرأة، وهم يهدفون من وراء ذلك أن يسقط الناس فيما حرم الله من الزنا، ثم يسقطون من عين الله، ثم تنهار دولتهم وينهار ملكهم وينهار سلطانهم في هذه الأرض.

فقال قيصر الروم: ائتوا لي بأجمل فتاة في بلادي.

فاختاروا أجمل فتاة، وقالوا: هذه أجمل فتاة في بلادك.

فقام وأغراها قاتله الله، وقال لها: إذا فتنت هذا الشاب فسوف أعطيك ما تريدين.

وهذه كلها مؤامرات ضد رجل مسلم، لكنه مسلم عظيم الإسلام، فجيء بهذه الفتاة أمام هذا الشاب الذي قضى أشهراً طويلة بعيداً عن أهله، وكانوا يظنون أنه في الحال سوف يقع في الفاحشة، ثم بعد ذلك تسهل قيادته إلى ملك الروم، فتعرت هذه الفتاة ودخلت على عبد الله بن حذافة وهو منكب يقرأ القرآن، فلما رآها عرف أنها فتنة، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه هي الفتنة.

ولكن قال: معاذ الله! إنه مؤمن يريد سعادة في غير هذا المتاع، فهو يعرف أن هذا متاع ينتهي به إلى عذاب الله عز وجل، فأكب بوجهه على رجليه، وانصرف عنها إلى جهة أخرى، فصارت تتابعه، وكلما اتجه إلى جهة اتجهت معه إلى نفس الجهة، ثم ينصرف عنها هنا وهناك، حتى أيست منه، ورأت أن هذا الرجل ليس من النوع الذي من السهل فتنته، فقالت: أخرجوني.

فلما أخرجوها قالت: والله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر؟ والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر.

وبهذا فشلت المؤامرة الثانية.

إنه مسلم صعب المنال، لا يمكن تطويعه بسهولة أبداً؛ لأنه مسلم جاء من بلده يبحث عن الجنة، ويبحث عن الشهادة في سبيل الله، رجل باع حياة الدنيا بحياة الآخرة، ولا يمكن أن يتغلب عليه شيء ولو كان أقوى من قوة الحديد والنار، ثم فكر قيصر في حيلة أخرى فهدده بالموت، فقال: ائتوني بقدر يقول المؤرخون: فجيء بقدر عظيمة وملئت زيتاً، وأشعلت تحتها النار ساعات من الزمن حتى صار الزيت يغلي، ثم قال: ائتوني بـ عبد الله بن حذافة.

فجيء بـ عبد الله وبرجلين من المسلمين رضي الله عنهم وعن المسلمين السابقين جميعاً، وأمر قيصر الروم بالأسيرين فألقيا في الزيت فخرجا عظاماً، وكان قيصر الروم يراقب عبد الله، فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله رضي الله عنه، فظن المجرم أن عبد الله بن حذافة سوف يرجع عن طريقه، فقال: يا عبد الله! خفت الموت؟ فقال: والله ما بكيت حينما رأيتني بكيت خوفاً من الموت، وإنما بكيت لأن لي نفساً واحدة تموت في سبيل الله، ولوددت لو أن لي بكل شعرة في جسمي نفساً تدخل هذا القدر وتموت في سبيل الله.

فقال: يا عبد الله! أريد منك أن تقبل رأسي وأطلق سراحك.

فقال: بل وأسرى المسلمين جميعاً.

فقال: نعم.

وانطلق عبد الله إلى المدينة بمن معه من المسلمين، فلما قص على عمر رضي الله عنه قال: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله.

وبدأ عمر فقبل رأسه.

إنه رجل مؤمن تربى على مائدة الإسلام، فأصبح أقوى من قوة الحديد والنار، فماذا يفعل بهذا الرجل وهو الذي يريد الجنة ويريد الشهادة في سبيل الله؟ وماذا يريد هؤلاء؟ إنهم لا يستطيعون التغلب على هؤلاء المؤمنين، فهم أقوى من قوة الحديد والنار، وإذا أردنا دليلاً على ذلك فالسر في أرض أفغانستان، فأفغانستان ابتليت منذ سنين بعدو ملحد مجرم جاء ليفتن الناس عن دينهم، وجاء بكل قوى البشر، وبكل قوى الحديد والنار التي وصلت إليها التقنيات الحديثة، والمبيدات والأشياء التي منعت دولياً استعملت في أفغانستان، ومع ذلك رجع العدو خاسئاً؛ لأن قوة المسلمين أقوى من قوة الحديد والنار مهما كانت قوة الحديد والنار مرعبة ومخيفة.