ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام أعطاه الله قوة في جسده، ومع هذه القوة أعطاه قوة أيضاً في شخصيته، فكان يبحث دائماً عن إحقاق الحق وإبطال الباطل، فحينما يرى مظلوماً يسعى قدر استطاعته إلى أن يرفع الظلم عن المظلوم؛ من أجل أن يكسب سمعة في هذا المجتمع، حتى يكون ذلك مقدمة لرسالته، وهذا في كل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ومعلوم من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الرسالة كيف كان يقدم من الخدمات للناس، حتى قالت خديجة:(إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر) عندما شهدت له رضي الله عنها، وهذه هي صفته كما قال الله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:٤]، حتى كان أهل مكة بالرغم من كراهيتهم له يسمونه الصادق الأمين، لكن ذلك كان قبل الرسالة، أما بعد الرسالة فقد أصبح كاذباً خائناً في نظرهم، وهذه قاعدة مطردة، أي إنسان لا يريد أن يغير أوضاع الناس فتجده في كثير من الأحيان محبوباً عند الناس، لكن إذا أراد أن يغير أوضاعاً مألوفة فإنه يصبح خائناً وساحراً وكاهناً وكاذباً إلى غير ذلك.
فموسى عليه الصلاة والسلام كان لا يتحمل الضيم، وكان يريد أن ينقذ المستضعفين في هذه الأرض، فذات يوم وجد قبطياً من جنود فرعون يتنازع مع إسرائيلي من قومه، وكان ذلك القبطي ظالماً، فضربه موسى ضربة صغيرة، فسقط ومات بقوة موسى عليه الصلاة والسلام, لكن موسى ندم ورأى أنه قد أخطأ واستغفر الله تعالى.
وفي اليوم التالي وجد صاحبه الإسرائيلي يتنازع مع قبطي آخر، فأراد أن ينتقم له مرة أخرى؛ لأنه يرى أنهم مظلومون فقال: يا موسى! {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ}[القصص:١٩]، فكشف سراً ما كان له أن يكشفه، وقد كانوا يبحثون عن الذي قتل القطبي، فانكشف السر؛ مما اضطر موسى عليه الصلاة والسلام إلى أن يغادر أرض مصر هارباً إلى بلاد الشام, من أجل أن يفر بنفسه عليه الصلاة والسلام حتى يبتعد عن أعين القوم، أما القوم فقد علموا أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس؛ فصاروا يبحثون عنه، فجاءه رجل وحذره وقال:{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}[القصص:٢٠ - ٢١] , وهذا الخوف فطري ليس خوفاً من غير الله عز وجل، وإنما هو خوف فطري لا يؤاخذ عليه الإنسان؛ لأن الإنسان لا يؤاخذ على الخوف الفطري، فحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإن كانوا أشجع الناس وأقرب الناس إلى الله عز وجل، لكن الخوف الفطري جبل عليه كل الناس، لكن هذا الخوف ميزته في الأنبياء والمصلحين أنهم لا ينثنون عن مرادهم خوفاً من البشر، وإنما قد يختفون عن أعين الناس، كما اختفى الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور خوفاً من أعين قريش, وكما هرب موسى عليه الصلاة والسلام من أرض مصر خوفاً من آل فرعون.
هنا يقول الله عز وجل عن موسى عليه الصلاة والسلام لما ذهب:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[القصص:٢١]، وهذه ميزة يجب أن يتميز بها المصلحون، كما هي ميزة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل هي ميزة يجب أن تكون لكل الناس ولجميع المؤمنين, في حال الشدة يجب الفزع إلى الله عز وجل, والدعاء والتضرع بين يدي الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى كريم، فهو الذي يقول:{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[الزمر:٦١]، وبمقدار ما يُظلم الجو أمام الإنسان ما دام أنه قد أحسن العلاقة مع الله عز وجل فإن الله تعالى يخلصه، ولذلك فالله تعالى خلص موسى من آل فرعون، فالله سبحانه وتعالى كريم، إذا تعرف إليه الإنسان في حال الرخاء فإن الله تعالى يتعرف إليه ويعرفه في حال الشدة، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة): {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ}[الزمر:٦١]، ودروس كثيرة في القرآن والسنة، أمم يقعون في أعوص المشاكل وفي أحلك الظروف؛ لكن لهم حسنات سابقة لاسيما إذا كانت هذه الحسنات بينهم وبين الخلق؛ لأن الحسنات على نوعين: حسنات بينهم وبين الله عز وجل يكسبون فيها أجراً، لكن هناك حسنات أخرى يقدمونها كخدمة لهؤلاء الناس، ولإصلاح أوضاع الناس، فإن الله عز وجل قد يعجل لها شيئاً من الأجر في الحياة الدنيا، فيخلصهم من أمور خطيرة تحيط بهم.