[الصنف الرابع: من يتخذ الدين مطية للإفساد في الأرض]
عن النوع الرابع من أنواع البشر جاءت هذه الآيات لتصفهم مباشرة، يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:٢٠٤]، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:٢٠٦].
هذا النوع من البشر له كلام معسول يعجب الناس، وإذا تحدث يأخذ بألباب الناس، وإذا تكلم عن الإسلام بدأ يمدحه، ويصفه بأنه دين الحياة والرقي والتقدم، وإذا كان له مطلب من مطالب الدنيا اتخذ الدين مطية، وبدأ يظهر أمام الناس بمظهر الرجل الصالح المصلح، فإذا ظفر ببغيته، وحصل على مراده، وأدرك أمنيته؛ ضرب بدين الله تعالى عرض الحائط، لماذا؟ لأن الهدف قد انتهى، والمهمة قد تحققت، ولذلك فإنه: {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:٢٠٤]، على اختلاف بين المفسرين في معنى: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فقيل: أي: حديثه عن الدين، وقيل: حديثه عن الدنيا فقط، وعلى كل فإن الرأي الأول أولى؛ لأنه قال بعد ذلك: (تَوَلَّى) أي: أعرض وانتهت مهمتة، كما اختلف علماء التفسير في معنى: (تَوَلَّى)، فقال بعضهم: إذا ولي منصباً من مناصب المسلمين، فما دام يهدف إلى هذا المنصب؛ فإنه يعد الناس ويمنيهم وسيفعل وسيفعل، وسيعيد عصر الخلفاء الراشدين، لكنه إذا ظفر بمراده ضرب بدين الله عز وجل عرض الحائط، وأصبح أكبر عدو للإسلام، أو انتهى من مهمته، وحصل على بغيته، بعدها سعى في الأرض فساداً: {لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْل} [البقرة:٢٠٥].
هذا أخطر أنواع البشر، وهو في أخبث المنازل؛ لأنه يخدع الناس حتى يوصلوه إلى مركزه ومطلبه، ويبذلون له كل غال ونفيس في سبيل إيصاله إلى أن يتولى أمراً من أمورهم، فإذا به يضرب بهم عرض الحائط، وإذا به يتحداهم ويتحدى دينهم وأخلاقهم وفضائلهم.
وهذا النوع كثير في حياة الناس، ولو نظرنا إلى كثير من زعماء العالم الإسلامي الذين كانوا يعدون ويمنون، ويقولون: سنفعل وسنصلح، حتى إذا صعد أحدهم واعتلى على الكرسي إذا به العدو اللدود لدين الله عز وجل ولأوليائه، ومن هنا امتلأت السجون بالأبرياء، وتحولت السجون إلى معتقلات في أكثر العالم الإسلامي، فالأبرياء الذين يعيشون في معتقلات الطغاة والظلمة في أيامنا الحاضرة يساوون آلاف الأضعاف بالنسبة للمجرمين الذين يعيشون في السجون العادية، لماذا؟ لأن هؤلاء إذا تولى أحدهم قلب ظهر المجن على أولياء الله، وأصبح عدواً لدين الله عز وجل، ولذلك أخبر الله عز وجل أن هؤلاء يهلكون الحرث والنسل -نعوذ بالله- وذلك بأن يفرضوا من الفساد والطغيان والانحراف في الأرض ما يكون سبباً في دمار هذا العالم، ولذلك تنقطع الأمطار، وتتوقف الخيرات بأسباب هؤلاء، فيهلك الحرث -أي: الزرع- ويهلك النسل والمواشي وحتى البشر بأسباب هؤلاء.
ولو نظرنا إلى واقع العالم الإسلامي اليوم لوجدناه يعيش هذه الحياة الدامية التي لا يستطيع قلم أن يصفها أو لسان أن يتحدث عنها، فلا نسمع عبر الأثير من الأخبار إلا المجازر والقتل والدماء بمئات الآلاف، لم هذا؟ لأن كثيراً من هؤلاء السفهاء الذين تولوا مناصب العالم الإسلامي كانوا سبباً في دمار هذا العالم، ولذلك بمقدار ما يتولى السفهاء الأمور بمقدار ما تنحط الدنيا، وتنحرف وتسوء أحوال العالم الإسلامي.
أيها الإخوة! إننا حينما نسمع مثلاً عن أخبار لبنان أو العراق أو إيران أو العالم، لا نسمع إلا ما يدمي القلب، وعلى هذا نقول: إن هذه عقوبة الله عز وجل أنزلها بهؤلاء القوم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:١٠٢]، والله تعالى يقول عن هؤلاء: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٥]، كيف نعرف هذا النوع من البشر؟ نعرفهم بصفة ذكرها الله عز وجل بعد ذلك، قف أمام واحد منهم وقل له: اتق الله، فسيقول لك: أنا أتقي الله؟! هذا ينتظره السجن والقتل والعقوبات والويلات والمصائب أولى به، لا يريد أن يقال له: اتق الله، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:٢٠٦]، إذاً: لا يلين قلب هذا وجسمه القاسي ورأسه الصلب إلا نار جهنم، فهي التي ستذيبه وتقضي عليه؛ {فحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:٢٠٦].
اذهب إلى هؤلاء الطغاة في أكثر العالم الإسلامي وقل لأحدهم: اتق الله، وانظر ما سيفعله بك، وحينئذ تعرف الحكمة والمعجزة لهذا القرآن العظيم لما ذكر أن من صفات هؤلاء إذا قيل لأحدهم: اتق الله، غضب، وما امتلأت السجون والمعتقلات في أيامنا الحاضرة في هذا العالم الإسلامي إلا لأن المسلمين الأتقياء يأتون إلى هؤلاء ويقولون لهم: اتقوا الله، ولأن المسلمين يريدون الإصلاح في الأرض، وأولئك يريدون الإفساد فيها، فيأخذونهم أخذاً شديداً، ولكن هؤلاء ينتظرهم موعد بينهم وبين هؤلاء المؤمنين المظلومين يوم يقف الجميع بين يدي أحكم الحاكمين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اسمعوا أخبار شمال أفريقيا والشام، وابحثوا عن السجون، لقد أصبح المسلم في تلك البلاد لا يستطيع أن يؤدي أبسط شعائر الدين، فضلاً عن أن يقول لذلك الطاغية: اتق الله، فكيف به لو قال له: اتق الله، وهو يظن أنه أتقى الناس، وهو في قلبه وقرارة نفسه يؤمن بأنه هو الخليفة المصلح، فيسمى بأمير المؤمنين، ويسمون أنفسهم بالمصلحين، وهم شر أعداء الله تعالى.
إذاً: نعرف كيف أن الله عز وجل أعلمنا عن هذا النوع من البشر، ونشكر الله سبحانه وتعالى على ذلك، فنحن هنا نعيش في خير، ويتخطف الناس من حولنا، ونسأل الله أن يثبتنا على القول الثابت، ونسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ لنا قادتنا بالإسلام، وأن يهديهم للاستقامة، وأن يجعلهم يأخذون بأسبابها.