أما عباد الرحمن قد ذكر الله تعالى صفاتهم العظيمة وأثنى الله عز وجل عليهم، فهم الذين نظروا إلى هذه الحياة الدنيا نظرة ازدراء واحتقار، وجعلوا ملء قلوبهم الحياة الآخرة وخشية الله سبحانه وتعالى، ورفضوا زينة الحياة الدنيا الحرام مكتفين بالزينة الحلال وبما أباح الله عز وجل لهم، فيقول الله تعالى عن عباده:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان:٦٣ - ٦٤] إلى قوله تعالى في جزائهم: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}[الفرقان:٧٥]، فـ (عباد): مبتدأ، وخبر المبتدأ (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا).
إذاً هذه هي صفات العباد، وعلى كل واحد من المسلمين أن يصيخ بأذنه، وأن يصغي بقلبه ليعرف صفات عباد الرحمن، لعلَّ الله عز وجل أن يوفقه إليها أو إلى الكثير منها، فيكون عبداً لله عز وجل يستحق العبودية بمعناها الصحيح التي تُعتبر شرفاً وكرامة؛ لأن العبودية لابد منها، ولكن إما أن تكون لله وإما أن تكون للمخلوق، فإذا كانت العبادة لله عز وجل حررت الإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وإذا تحرر هذا الإنسان وحاول التجرد والتملص من العبودية لله سبحانه وتعالى يقع في عبادة المخلوقين، كما قال ربعي بن عامر رضي الله عنه مندوب سعد بن أبي وقاص إلى الفرس حينما قال له رستم: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله عز وجل قد ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله عز وجل وحده.
ولذلك تجد في القرآن عبيداً لغير الله كثيرين، عبيداً للمال، وعبيداً للهوى، وعبيداً للشهوة، كما قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}[الجاثية:٢٣]، وعبيداً للشيطان، كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}[يس:٦٠] فهناك عبيد للمال، كما قال عليه الصلاة والسلام:(تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، وهناك عبيد للشهوات، وعبيد للمراكز، وعبيد للخلق أيضاً، فالإنسان إذا تجرد من عبادة الله عز وجل والعبودية لله يقع في العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، وإذا تعمق في العبودية لله عز وجل تخلص من العبودية للمخلوقين، ولذلك تعتبر العبودية لله عز وجل هي الشرف، كما قال الفضيل بن عياض: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا يقول: لما قلت لي: (يا عبد) جعلني هذا اللقب اعتز حتى تطاولت كثيراً، وارتفعت حتى كدت أطأ الثريا بأقدامي؛ لأني دخلت تحت العبودية لله عز وجل.
وعلى هذا نقول: من شاء أن يكون عبداً لله فليتحرر من العبودية للمخلوق كائناً من كان، ومن شاء أن يقع تحت وطأة العبودية لخلق الله فإنه هو الذي يتحرر عن العبودية لله عز وجل وحده.