[وجوب الاستقامة كما أمر الله تعالى]
لا بد من المبادرة بالتوبة، ولا بد أن يطرح الإنسان كل هذه الأماني التي غرت كثيراً من الناس؛ لأن الشيطان توعد بني آدم من أربع جهات: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف:١٧] أي: الأمام {وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:١٧].
وهذا أمر عجيب أيها الإخوة! فإن هذه الآية وأمثالها فسرها لنا الواقع، فنحن نعرف إلى عهد قريب أن أكثر ما يدخل الناس النار هي المعاصي، أو الكفر بالله سبحانه وتعالى، لكن هل تظنون أن هناك طاعات مزعومة أصبحت تدخل الناس النار أكثر من المعاصي؟! فإنك لو ذهبت إلى بعض البلاد لوجدت أُناساً يعبدون الله عبادة لا نستطيع أن نعبد الله معشارها، ونحن متأكدون أنهم ماتوا على هذه العبادة، ومع ذلك فهم حطب لجهنم، وليس هذا الأمر غريباً، فإن أهل النار إذا دخلوا النار يقولون لمن كان سبباً في إضلالهم: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:٢٨]، أي: لم تأتونا عن طريق المعصية، وإنما أتيتمونا عن طريق الطاعة.
ولذلك لو أقسمت بأنّ أكثر من ثلاثة أرباع هذا العالم الآن يعرضون أنفسهم لعذاب الله عن طريق الطاعة، وأنّ الربع هو الذي يعرض نفسه للعذاب عن طريق المعصية ما كنت حانثاً، فهناك بدع وخرافات ووثنيات تفعل بقصد الطاعة والتقرب إلى الله تعالى! ووالله لقد رأينا بعضهم يقضي الليل كله في عبادة، ولكنها لا تزيده من الله إلا بعداً، وتذكرنا قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:١ - ٤].
إذاً: لا بد أولاً أن نصحح المسار، قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:١١٢]، ولم يقل الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ) فقط، والاستقامة هي لزوم الطريق المستقيم، لكنه قال: (كَمَا أُمِرْتَ) فيفهم من ذلك أنّ هناك استقامة ليست كما أمر الله تعالى، أي: ليست استقامة حقة، ولكنها تشبه الاستقامة في ظاهرها، وأما الاستقامة التي تدخل الجنة فهي: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) وليست: فاستقم كما تهواه نفسك، وكما يمليه عليك ضميرك.
أيها الإخوة! نحن مطالبون بأن نقف في أول خطوة من خطوات هذا العام الجديد تائبين متفقدين لأعمالنا، فإن كان هناك شرك أو أخطاء في المسار فعلينا أن نعود وأنْ نصحح؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وصواباً على المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال الصحابة ذات يوم: يا رسول الله! الرجل منا يعمل العمل من أجل الله، ولكن يحب أن يراه الناس -أي: فماذا عليه في ذلك؟ - فأنزل الله عز وجل جواباً على هذا
السؤال
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١١٠]، فاشترط الله تعالى في العمل شرطين: أن يكون صالحاً، وألاّ يكون فيه شرك.
والمراد بالعمل الصالح أن يكون موافقاً للمنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، فالعمل الذي تحقق فيه هذين الشرطين هو العمل المقبول.
ولذلك لما ذكر الله تعالى الوصايا العشر في سورة الأنعام قال في آخرها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:١٥٣]، (وقد خط الرسول صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً ثم قال: هذا صراط الله، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً كثيرة وقال: وهذه هي السبل، وعلى كل واحد منها شيطان، وعليها ستر مرخاة) أي: مغطاة، ولكن يأتي الشيطان ويكشف هذا الطريق، ويدخل الناس منها يميناً أو شمالاً، ويتركون الطريق المستقيم.
لقد أدركنا الآن أن هناك طرقاً منحرفة يميناً وشمالاً، وعرفنا الشياطين الذين يدعون إلى السبل، وللأسف أن أسماءهم لم تكن أبا جهل وأبا لهب كما كان ذلك في الجاهلية السابقة، بل تجد أن أسماءهم: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، وسيف الدين، وصلاح الدين، وعماد الدين، وسعد الدين، ومع ذلك فهم الذين يزيحون هذه الأستار، ويقولون للناس: اسلكوا هذه السبل إلى النار، وهذا أمر خطير، فلم يمر في تاريخ البشرية مثل هذا الحدث التاريخي الأسود: أن يكون دعاة على أبواب جهنم من أبناء جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، فلو كان العدو من الخارج فمن السهل أن تحصن الحدود، وتحمى الطرقات، وتطوق بلاد المسلمين، ولكن المشكلة كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند وقديماً قال أحد أعداء الإسلام كلمة ما كان الناس يعرفون معناها، بل لم يكن معناها يخطر بالذهن، قال: إن شجرة الإسلام عظيمة، ولها جذور، وإنكم لا تستطيعون أن تقطعوها إلا من غصن من أغصانها.
فما كان هذا الكلام معروفاً أولاً، أما الآن فقد رأينا هذه الأغصان التي يحاول أعداء الإسلام أن يقطعوا بها شجرة الإسلام السامقة.