معشر المسلمين! أما الناس في أيامنا الحاضرة فإنهم يختلفون في إدراك حقيقة رمضان والصيام، وينقسمون إلى صنوف شتى: فمنهم من لم يرفع برمضان رأساً، ولم يقم له وزناً، فهو مكب على لهوه وشهواته ومعصيته، مفطر في رمضان حسبما تحيط به من ظروف، سواء أعلن فطره أم أخفاه عن أعين الناس، وهؤلاء لا يفسرون رمضان إلا إيذاءً للنفس وحرماناً لها من شهواتها، فأولئك هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله:{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}[الزخرف:٨٣]، وقوله:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الحجر:٣]، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام:(من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يكفره صيام الدهر كله وإن صامه).
وهناك نوع آخر مكب على المعصية، يركب المحرمات، ويترك الواجبات، ولا يبالي بذلك أبداً، حتى إذا قرب موعد شهر رمضان سلك مسلك الصالحين، فلا توبة ولا إنابة، ولكنها عادة ألفها، فعرف حينئذ الطريق الموصلة إلى المسجد، ولربما صام رمضان، وترك كثيراً من المحرمات، حتى إذا ودع شهر رمضان ودع العبادة كلها، وإن أخوف ما أخاف أن يكون هذا النوع الذي بدأت تغص به المساجد اليوم من هذا الصنف، وأعيذكم بالله من شر ذلك! فهؤلاء لم يزيدهم رمضان من الله إلا بعداً، إلا إذا استقبلوه بتوبة نصوح، وعاهدوا الله على العمل المتواصل، وهؤلاء يشبهون الذين قال الله فيهم:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}[البقرة:١٧ - ١٩].
فهؤلاء يرون الحق فترة من الزمن، ثم يخفضون أعينهم عن الحق، فيزيد ظلامهم ظلاماً.
وهناك نوع ثالث ركب المحرمات، وترك كثيراً من الواجبات، فاشتد شوقاً إلى موسم تزداد فيه التوبة، وتضاعف فيه الحسنات؛ لعله يستعتب بين يدي الله عز وجل، حتى إذا أقبل عليه شهر رمضان أبرم عقداً وثيقاً بينه وبين ربه سبحانه وتعالى، وعض أصابع الندم وقرع سناً على ما سلف من أمره، ثم يسلك مسلك الصالحين، ويسير مسيرتهم؛ حتى يلقى الله عز وجل.
وهناك نوع رابع قد أبرم العهد مع الله، وصار ذا عبادة، فهو على العهد والميثاق، لم يتخلف لحظة من لحظات الزمن عن طاعة ربه، ولم يفعل شيئاً من المحرمات، حتى إذا أهل عليه هلال شهر رمضان طارت نفسه شوقاً إلى منزل من مواطن العبادة تضاعف فيه الحسنة، وتحط فيه السيئة، فهو لا يترك العبادة، ولا يفعل شيئاً من الحرام طول عمره، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا}[فصلت:٣٠] يعني: في ساعة الموت، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت:٣٠]، وقال عز وجل فيهم:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}[يونس:٦٢ - ٦٤].