[الدافع للرجال الصالحين إلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة]
وقوله تعالى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}[النور:٣٧]؛ لأنهم يعتبرون إقام الصلاة والإتيان بها مستقيمة، وإيتاء الزكاة هي ربح هذه التجارة، وهي أفضل ما يزاوله الإنسان، وهي تجارة هذا المال، فلهم تجارة، لكن هذه التجارة لا تشغلهم عن ذكر الله، ولا تشغلهم عن الزكاة التي هي حق معلوم فرضها الله عز وجل على هؤلاء الناس بقدر أموالهم.
وأما ما هو الدافع لذلك؟ فقال تعالى:{يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور:٣٧]، فيا إخوان! ذلك اليوم عظيم جداً؛ لأن الله تعالى سماه:{يَوْمًا ثَقِيلًا}[الإنسان:٢٧]، وسماه:{يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:١٠]، وقال عنه:{يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}[الإنسان:٧]، وقال:{يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}[الإنسان:١٧]، فلا تجد صفات أعظم من هذه الصفات في ذلك اليوم؛ حيث يتحول الطفل إلى شيخ كبير السن شعره أبيض من شدة المخاوف.
هذا اليوم يقول الله عز وجل عنه:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[الحج:٤٧]، إنه يوم واحد يساوي ألف سنة، لكن هذا اليوم العظيم يهونه الله عز وجل على المؤمن حتى يصبح كالصلاة المكتوبة، وتصوروا يا إخوان! المسلم يصل إلى مقره في الجنة في أقل من نصف نهار من أيام الدنيا، مع أن اليوم يساوي ألف سنة، لكنه في أقل من نصف نهار يصل إلى منزله في الجنة، والله عز وجل يقول:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}[الفرقان:٢٤]، ليس في الآخرة قيلولة، وليس فيها حر ولا برد، وليس فيها ليل ولا نهار، لكن المراد: أنه بالنسبة لأيام الدنيا يكون ذلك في أقل من نصف نهار، يعني: قبل أن يأتي وقت القيلولة يكون ذلك الإنسان قد وصل إلى منزله في الجنة، ولذلك يقول الله تعالى:{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور:٣٧]، كيف تتقلب القلوب؟ من شدة الخوف يقفز القلب من مكانه حتى يسد الحنجرة، ويقفز البصر من مكانه حتى يكون في أعلى الرأس؛ لأن الإنسان حينما يخاف يحصل له هذا الأمر، فإذا خاف الإنسان رفع بصره إلى السماء، فكأن البصر قفز إلى أعلى الوجه، وإذا خاف يرجف هذا القلب رجفاً شديداً، ومن شدة الارتجاف يصعد هذا القلب حتى يسد الحنجرة، ولذلك يقول الله تعالى:{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر:١٨]، فحتى القلب يقفز عن مكانه، فيكظم الحنجرة، فلا يستطيع الإنسان أن يتنفس، وهذا اليوم العظيم يهونه الله تعالى على أولياء الله وعلى الصالحين من عباد الله، ولذلك يقول الله تعالى:{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور:٣٧].
إذاً: هؤلاء اللاهون اللاعبون العابثون الذين ليس لهم هم إلا الدنيا والشهوات والمتاع، وربما الطعن في دين الله، هؤلاء في غفلة عن ذلك اليوم، وأما الذي يتذكر ذلك اليوم فهم الرجال الذين تربوا في المساجد، فلم تشغلهم الدنيا عن ذكر الله عز وجل والدار الآخرة، في وقت يلهو فيه ويلعب كثير من الناس، ويغفلون عن الموت فلا ينتبهون إلا حين يجلس ملك الموت عند رأس أحدهم.
وهل المسلم يعبد الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار أم محبة في الله، كما يقول الصوفية؟ فغلاة الصوفية يقولون: نحن لا نخاف من النار ولا نريد الجنة! فماذا تريدون؟ قالوا: نعبد الله محبة لله، كما قالت رابعة العدوية:(عبدتك لا خوفاً من نارك ولا حباً في جنتك، وإنما محبة فيك)، وهذا كلام فاسد ليس بصحيح؛ فنحن نعبد الله محبة فيه وخوفاً من عذابه وطمعاً في جنته، ولذلك أفضل الرجال هنا يعبدون الله لماذا؟ يقول الله:{يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور:٣٧].
فليست عبادة الله كما يقول الصوفية: محبة لله فقط، وإنما تكون عبادة الله طمعاً في جنته وخوفاً من ناره، ولذلك لما مدح الله تعالى المرسلين وهم خيرة البشرية وصفوة الخلق قال الله تعالى عنهم:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}[الأنبياء:٩٠]، فإذا كان الأنبياء يدعون الله رغباً ورهباً فهل الصوفية فوق مستوى الأنبياء يدعون الله حباً له، وليس رغباً ولا رهباً؟! إذاً: هذه الآية ترد على من يقولون: عبدتك لا خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك.
ونحن نقول: عبدناك يا رب محبة لك وطمعاً في جنتك وخوفاً من عذابك، وهذا هو المنهج الصحيح الذي يجب أن يسلكه المسلم في هذه الحياة؛ ولذلك مدح الله تعالى هؤلاء الرجال فقال:{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}[النور:٣٧].