خبيب بن عدي رضي الله عنه وقع أسيراً في أيدي المشركين، وفرح المشركون كثيراً حينما وقع خبيب في الأسر؛ لأنهم يريدون أن يتلذذوا ويتمتعوا بقتله، وتقطيع أجزائه، فخرجوا به خارج الحرم -احتراماً للحرم- ونصبوا له المشنقة، فبدءوا يساومونه على دينه، حتى قالوا له: أتود أن محمداً في مكانك هنا؟ قال: والله ما أود أن محمداً في مكانه تصيبه شوكة وأني في أهلي! وفشلت كل مساوماتهم معه، فرفعوه على المشنقة، وصاروا يمزقون جسده تمزيقاً، وهو لا ينصرف عن دينه، وكان يتوجه إلى الله عز وجل في أشد معاناته، ويقول: اللهم! أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
فهذا نموذج من نماذج رجال المسجد.
وهذا قتيبة بن مسلم رحمة الله عليه كان من القادة في بلاد الشرق، وممن تربى في المسجد، وهو الذي فتح بلاد ما وراء النهر، وهي تشمل الآن مناطق كثيرة من بلاد أفغانستان وجزءاً من روسيا؛ سأل جنوده: أي بلد أمامي الآن؟ قالوا: بلاد الصين، قال: والله لا أرجع إلى بلدي حتى أطأ بأقدامي هذه أرض الصين، وأضع وسم المسلمين على الصينيين، وآخذ الجزية! (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، فبلغ الخبر إلى ملك الصين، فأرسل تراباً وصحافاً من ذهب وأموالاً طائلة إلى قتيبة، وقال: هذه صحاف من الذهب فيها تربة يطؤها قتيبة وهو في مكانه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسم، وهذه هي الجزية كل سنة تصل إلى قتيبة ولا يأتي إلى بلادنا.
وهذا عقبة بن نافع بالجهة الغربية كان يسابق الشمس على مطالعها، ويفتح بلاد الله وينشر فيها الإسلام، يقول المؤرخون: لما وصل إلى القيروان، كانت غابة موحشة، وكان كل الفاتحين يرجعون دونها في تونس، فأراد أن يبني مدينة القيروان لتكون مركزاً للعالم الإسلامي في شمال إفريقيا، قيل له: أيها القائد يرحمك الله! هذه أرض يعجز عنها كل الفاتحين، فهي غابات موحشة مأسدة مخيفة، فوقف على حافة الغابة بإيمانه يخاطب الوحوش -مع أن الوحوش لا تفقه كلام الرجال، لكن الله سبحانه وتعالى قد يوقع رعب المؤمنين حتى في قلوب الوحوش- فقال: أيتها الوحوش! نحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم جئنا لننشر الإسلام هنا، يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها وتخلي الغابة لـ عقبة بن نافع.
وبعد أن بنى مدينة القيروان واصل سيره ليقف بقدمي فرسه على المحيط الأطلسي ويقول: والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أن وراء هذا الماء أحداً من البشر لخضته إليه بفرسي هذه! ثم بعد ذلك يرجع بعد أن أوصل الفتح الإسلامي إلى تلك البلاد.
ليس غريباً أن يربي المسجد مثل هؤلاء، ومثل خالد بن الوليد، ومثل أبي عبيدة بن الجراح، وغيرهم من الرجال، كما أنه ليس غريباً أيضاً أن تربي المواخير ودور الدعارة والفساد هؤلاء الذين أصبحوا يقودون أممهم إلى الهاوية وإلى الدمار! إذاً: ليس هناك سبيل إلى صلاح هذه الأمة إلا أن ترجع إلى المسجد، وتربي أبناءها في المسجد، وتعاد للمسجد رسالته التي سلبت منه، ويستعيد مهمته الكبرى التي أنيطت به، وإلا فإن الأمر خطير؛ ولذلك فنحن نتطلع دائماً وأبداً إلى هؤلاء الرجال الذين يقول الله عز وجل عنهم:{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}[النور:٣٦ - ٣٧].