[الغربة الأولى]
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب ويوحد بينها، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:٦٣] وأصلي وأسلم على البشير النذير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلغ رسالة ربه، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أحبتي في الله! أشكر الله تعالى ثم أشكر لكم هذا الحضور المبارك، سائلاً الله عز وجل أن يجعلني عند حسن ظنكم بي، وأنا دون ما تظنون بكثير، ولكني أسأل الله تعالى أن يوفقنا للحكمة وفصل الخطاب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) وفي رواية: (الذين يصلحون إذا فسد الناس) وفي رواية: (الذين يصلحون ما أفسد الناس).
إننا نستطيع أن نتكلم عن هذا الحديث من خلال عدة عناصر: أولاً: الغربة الأولى.
ثانياً: كيف اجتاز سلفنا الصالح تلك الغربة فقامت دولة الإسلام السامقة.
ثالثاً: كيف نام المسلمون فعادت الغربة مرة أخرى.
رابعاً: غربتنا اليوم وأهم مظاهرها.
خامساً: كيف نستطيع أن نجتاز الغربة التي نعيشها اليوم.
من خلال هذه العناصر نستطيع أن نتحدث قليلاً عن هذا الموضوع المهم، لا سيما في هذه الظروف العصيبة من تاريخ أمتنا الإسلامية، علماً أننا لا نتناسى ولم نتناس هذه الصحوة المباركة، التي أرى اليوم أهم مظاهرها في الشباب الملتزم بدينه، وأسأل الله أن يثبت الأقدام.
أخي في الله! الغربة الأولى لا تحتاج إلى مزيد حديث، فلقد حدثنا التاريخ عنها حديثاً طويلاً، وكيف كان المستضعفون من المسلمين في صدر الإسلام الأول يلاقون من العناء، لا سيما بعد أن جهر الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته، وأنزل الله عز وجل عليه قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤] فصعد الصفاء وقال: (يا بني فلان، ويا بني فلان) حتى اجتمع القوم حوله فقال: (إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)! فبدأ الصراع بين الحق والباطل، علماً أن الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الحياة الدنيا، وسيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول الله تعالى لأبينا آدم وإبليس مخبراً عن قدم الصراع بين الحق والباطل: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:١٢٣] ثم إن إبليس طلب من الله أن يؤخره ويمهله إلى يوم يبعثون، فأعطاه الله عز وجل المهلة إلى يوم الوقت المعلوم.
كل هذه الفترة الطويلة ميدان للصراع بين الحق والباطل، ولا يمكن للحق أن يهادن الباطل ولا يمكن للباطل أن يهادن الحق، سنة الله في هذه الحياة، ولكن لله جنود السماوات والأرض.
ومن هنا بدأ الصراع في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين الحق والباطل، حتى لقي الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من الأذى في سبيل الدعوة مالا يخفى على أحد من المسلمين، كما سطره لنا تاريخ الإسلام، وكما أشارت إليه السنة النبوية، بل كما أشار الله عز وجل إليه في القرآن.
صور الله عز وجل لنا تلك المرحلة -وهي مرحلة سوف تتكرر عبر التاريخ- صورها الله عز وجل بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:٢١٤]، ثم يقول الله عز وجل: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤].
تصوروا مقدار المحنة التي مرت بالأمة (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله).
فقوله: (وَزُلْزِلُوا) أي: كأن الأرض تضطرب بالمسلمين من شدة ما يلاقونه من عدوهم.
ثم أيضاً تزيد هذه الشدة إلى أن يتساءل الرسل ويتساءل أتباع الرسل: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ)؟ وتصور حينما يقول الرسول: متى نصر الله؟ استبطاء للنصر لا يأساً منه.
وتصور حينما يقول المؤمنون الذين يأخذون الوحي طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى نصر الله؟ فهذا يدل على أن الأمة قد وصلت إلى مستوى لا يطاق وإلى شدة لا تتحمل، ثم يجيب الله عز وجل بقوله: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
ثم يصور لنا خباب بن الأرت رضي الله عنه مستوى المحنة التي وصل إليها المسلمون في الصدر الأول بقوله: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد رداءه في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيحفر له في الأرض، فيوضع المنشار على مفرق رأسه فيفلق فلقتين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
هذه هي المحن التي تعترض سبيل المؤمنين دائماً وأبداً، فالله تعالى يقول للمؤمنين: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:٢٠] وهذا الاستفهام استفهام توبيخي وإنكاري بحيث يجب أن نصبر؛ لأن الله عز وجل قد امتحن المؤمنين بأعدائهم دائماً وأبداً، ولولا ذلك لما كانت الجنة للمؤمنين؛ لأن الجنة سلعة الله وهي غالية، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، والجنة لا تدرك إلا بمثل هذه الخطا الحثيثة، فليس طريق الجنة مفروشاً بالورود والرياحين ولكنه محفوف بالمكاره والأمور العظام.