[البدع وانتشارها مخالف للاستقامة]
إذاً: ليس هناك مجال للاجتهاد، وليس هناك مجال للابتداع، أبو بكر وهو أفضل البرية بعد المرسلين عليه الصلاة والسلام يقول: (ألا إني متبع ولست بمبتدع)، فإذا كان لا يحق لـ أبي بكر رضي الله عنه أن يبتدع وهو الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)، فهل يحق لواحد يأتي في القرن الرابع عشر من الهجرة النبوية الكريمة ليحدث في دين الله ثم يقول: إن هذه بدعة حسنة وتلك بدعة سيئة؟! هذا هو الذي نفهمه من قوله تعالى: (فاستقم كما أمرت).
الخطاب موجه في الأصل للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له أن يستقيم كما يحلو له، بل كما أمر، والآمر هو الله عز وجل.
إذاً: هذه الاستقامة ليست مجرد تدين أو مجرد عبادة، وإنما هي عبادة مضبوطة محاطة بحلقة مقفلة ليس لأحد أن يتعداها أبداً؛ ولذلك تجدون في القرآن كثيراً ما يلوم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم في بعض الاجتهادات في مواطن كثيرة قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام:٣٥]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:٣٥] يقول الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:١ - ٢].
هذا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس له أن يبتدع في دين الله إلا ما أوحى الله عز جل إليه، ولذلك السنة هي الوحي الثاني من عند الله عز وجل، فالمسألة استقامة كما أمر هذا الإنسان، أما باب البدعة الذي انفتح اليوم على الناس، وجعل منه بدعة حسنة كما يقوله طائفة من الناس، بالرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في كل خطبة جمعة: (إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
إذاً: (كل) من ألفاظ العموم لا تعطينا أي علم على أن هناك شيئاً يسمى البدعة الحسنة في أي حال من الأحوال.
ولربما يحتج هؤلاء بقصة عمر رضي الله عنه في التراويح حينما قال: (نعمت البدعة)، البدعة هنا ليس معناها البدعة التي أحدثت جديداً، بدليل أن التراويح ليس الذي أحدثها هو عمر رضي الله عنه، وإنما شرعها محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه تركها خشية أن تفرض على هذه الأمة، حتى جاء عهد عمر رضي الله عنه فأحياها؛ لأن التشريع توقف، فلا يخشى في يوم من الأيام أن تفرض، وسماها بدعة أي: سنة نسيت فأحياها عمر رضي الله عنه.
وهنا تكون البدعة حسنة أي: إذا كانت سنة نسيت فيحييها أحد من أهل الخير والصلاح، أما أن تكون هناك بدعة حسنة فليس هناك بدعة حسنة، وإنما كل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ولكن هذه البدعة -أيها الإخوة- تجر إلى بدعة أكبر منها نسأل الله العافية والسلامة، وهي الشرك بالله عز وجل، وسأعطيكم دليلين اثنين على ما أقول: الدليل الأول: أن الله عز وجل قرن البدعة بالشرك في آيتين من كتاب الله عز وجل، وعندما تقرأ قول الله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:١١٥]، وهذا في البدعة، ثم قال بعد هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:١١٦] هذا دليل من القرآن.
وأذكر لكم دليلاً من الواقع: حينما كثر الابتداع في دين الله عز وجل، وصار في قاموس هذا العصر ما يسمى بالبدعة الحسنة التي نعتبرها ضلالة، وكلما أعجبهم شيء في ظاهره عبادة فعلوه، وهو في حقيقته تعد على سلطة الله عز وجل، وهي الألوهية والتشريع التي يقول الله عز وجل عنها: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:٤٠]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:٣]، فيقولون بلسان الحال: ما أكملت لنا ديننا، ولا أتممت نعمتك علينا، بدليل أن هنا عبادات جديدة أوجدوها، ويكذبون الرسول عليه الصلاة والسلام الذي يقول: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
هل من المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف ندخل الحمام، وكيف نجلس عند قضاء الحاجة، وماذا نقول عند دخول الحمام، وكيف نلبس النعل والثوب، وندخل البيت ونخرج، وندخل المسجد، ولا يعلمنا أموراً مهمة أحدثها الناس اليوم في دين الله؟! ما الذي حدث؟ هذه البدع تطورت فأصبحت شركاً بالله عز وجل.
وإذا أردت يا أخي دليلاً على ذلك فسر في العالم الإسلامي وسوف تجد كيف تقترن البدعة بالشرك بالله عز وجل، فتبدأ من بدعة صغيرة -كما يقولون- إلى بدعة كبيرة إلى أن تصل إلى الشرك الأكبر نسأل الله العافية والسلامة! فبناء القبور في المساجد بدعة تؤدي إلى الشرك الأكبر، فتجد الطواف حول هذه الأضرحة التي يسمونها الأولياء، وتجد الدموع التي تراق عند هذه الأضرحة أكثر والله مما تراق عند الكعبة المشرفة، وتجد صناديق النذور التي تملأ كل ساعة بالأموال، وتصرف على هؤلاء المشعوذين في وقت العالم يهدد فيه بالمجاعة، فأصبحنا نسمع في قارة واحدة من قارات العالم التي انتشر فيها البدع والوثنية أكثر من مائتين وخمسين مليون إنسان أكثرهم من المسلمين يهددهم الجوع والموت.
والله يا إخوان رأيت بعيني هاتين رجالا ًفي آخر العمر ساجدين للقبور، ولوا ظهورهم صوب الكعبة، وولوا وجوههم جهة هذه القبور، ففهمت قول الله تعالى حينما ذكر مشاقة الرسول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء:١١٥] ثم ذكر الشرك بعد ذلك، وقد ذكرت لنا الإحصائيات الرسمية في أيامنا الحاضرة: أن في العالم اليوم أكثر من عشرين ألف ضريح يعبد من دون الله.
وهذه الإحصائية مضى عليها أكثر من عشر سنوات، فقارن بين هذا الرقم وبين آخر لحظة في آخر معقل من معاقل الوثنية يوم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة ليفتحها؛ لتتحول إلى دار إسلام، كم عدد الأوثان التي كانت تعبد من دون الله وهي معلقة في الكعبة كلها؟ كانت ستين وثلاثمائة صنم، قارن بين ذلك العدد، وبين هذا العدد، وعد مرة أخرى لتقارن لنا بين جاهلية اليوم وجاهلية الأمس.
إذاً: الأمر خطير أيها الإخوة! والعجيب أن كل من يريد أن يتحدث عن هذا الموضوع يتهم بأنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أو لا يحب الصالحين.
أولاً: محبة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست محبة عاطفة، وإنما هي محبة متابعة، فليست محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كمحبة الزوجة والأطفال، وإنما محبة متابعة، وتأتي العاطفة بعد ذلك؛ لأننا نتقرب إلى الله عز وجل بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا نؤمن إلا ويكون هو أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ووالدينا والناس أجمعين، هذا الشيء الذي نؤمن به، لكنها محبة متابعة أكثر من أن تكون محبة عاطفة، ثم يقولون: أنتم لا تحبون الأولياء، نقول: من هم الأولياء في مفهومكم وقاموسكم الجديد؟ يقولون: فلان وفلان من أصحاب الأضرحة، نقول: لا، نحن في مفهومنا -المفهوم الشرعي الصحيح- أن الأولياء هم المتقون، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:٦٢ - ٦٣] فأنت وفلان وفلان من الصالحين نعتبركم أولياء، هذا في مفهوم الشرع، أما أن يصبح اسماً اصطلاحياً على قوم من الناس الله أعلم بولايتهم لله عز وجل، فلا نوافقهم على ذلك.