للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا)]

قوله: {هَاأَنْتُمْ} [النساء:١٠٩]، اتجه الله سبحانه وتعالى إلى شهود الزور نعوذ بالله! وهم أظلم الناس، وشر الناس من ظلم الناس للناس.

وشهود الزور: هم الذين يشهدون زوراً وبهتاناً ليوقعوا هذا الدين في حرج، وليخلصوا المجرم، ولينقلوا الحق إلى غير صاحبه، وهؤلاء يعملون أكبر الكبائر كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو بكرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور! ألا وقول الزور! ألا وشهادة الزور!)، يقول أبو بكرة: (فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى قلنا: ليته سكت)، من شدة علامات الغضب التي برزت على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:١٠٩]، أنت الآن تدافع عنه أمام السلطة، لكن يوم القيامة من يجادل عن هذا إذا وقف بين يدي الله عز وجل؟! أنت وإن جادلت عنهم في الحياة الدنيا فإنك لا تستطيع أن تجادل عنهم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة؛ لأن الأمر مكشوف وواضح ليس عليه غبار، وليس فيه سر: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:٢٢]، كل الأمور مكشوفة، ولذلك يقول الله تعالى: (فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي: عن هؤلاء المجرمين: (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)، من يتوكل على أمرهم؟! وكل إنسان يوم القيامة كما أنه مكشوف أمره هو أيضاً مشغول بنفسه، لا يستطيع أن يدافع عن نفسه فضلاً عن أن يدافع عن غيره؛ لأن الله تعالى يقول عن ذلك الموقف: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:٢]، وهنا يقول الله تعالى: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:١٠٩]، استفهام إنكاري؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يجادل عنهم يوم القيامة، ممكن أن يجادل في الدنيا وممكن أن يذهب المجرم إلى القاضي يدافع عن مجرم آخر، يمكن أن يذهب شاهد الزور ليشهد أن مال فلان لفلان ولربما يحلف؛ لأنه لا يخشى الله عز وجل، ولربما يستطيع أن يخلصه بوساطة، وإن كان مجرماً قد أفسد وعاث في الأرض فساداً يستطيع أن يدافع عنه بواسطة أو بجاه، ولربما يكتفي برفع سماعة الهاتف ليقول: أخرجوا فلاناً من السجن، وهو أكبر المجرمين في الأرض، لكن تعال يوم القيامة حينما يقف الجميع بين يدي الله عز وجل، من يجادل عن هذا المجرم؟ {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:٢٢]، يعني: وأشكالهم ونظراءهم وجلساءهم {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٢٢ - ٢٣]، هنا يقول الله عز وجل: {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:١٠٩]، إذاً: يا أخي! لا تجادل عن مجرم، لا تلصق التهمة ببريء، دع المجرم يأخذ نصيبه من العقوبة في هذه الحياة الدنيا، لعل هذه العقوبة تخفف عنه عذاب الله عز وجل يوم القيامة، دع السارق حتى تقطع يده، حتى يكون عظة وعبرة، ولعل الله أن يتجاوز عنه سرقته يوم القيامة، دع الزاني يقام عليه الحد؛ لعل الله أن يتجاوز عنه هذا الذنب يوم القيامة، دع قاطع الطريق يقام عليه الحد، دع شارب الخمر يقام عليه الحد؛ لعل الله أن يخفف عنهم العقوبة يوم القيامة، أما أن يأتي رجل يلبس ثياب الصلاح والتقى؛ ليجادل عن مجرم، أو ليشهد مع مجرم، ولربما تدفعه الغيرة والحمية أو القرابة أو العداوة لمن يشهد عليه، فإن هناك موقفاً بين يدي الله عز وجل لا يستطيع فيه أحد أن يجادل عن أحد؛ لأن الله تعالى يجرد كل واحد من سلطته يوم القيامة ويقول: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:٩٤].

ثم باب التوبة مفتوح، إذاً لا حاجة إلى اللف والدوران ما دام باب التوبة مفتوحاً، وله أجلان: أجل لكل واحد منا ما لم تبلغ الروح الحلقوم ما لم تحضر ساعة الموت، فباب التوبة مفتوح، والله عز وجل يقول عن هذا الأجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:١٧] ولفظة (عَلَى) تدل على الوجوب فأوجب الله تعالى على نفسه: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:١٧]، أن يتوب عليهم، والجهالة ليس معناها الجهل؛ لأن الجاهل لا يؤاخذ، وإنما معنى (بِجَهَالَةٍ)، أي: في غفلة، ومعنى (مِنْ قَرِيبٍ) ليس معناه: بسرعة، وإنما معناه: ما قبل الموت، فإن ما قبل الموت قريب، والله تعالى يقول في الآية الثانية: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} [النساء:١٨]، ما معنى (من قَرِيبٍ) ما قبل الموت، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) أو: (ما لم تبلغ الروح الحلقوم)، أتعرفون معنى الغرغرة؟ الغرغرة: أن تقرب الروح من الخروج لتودع هذا الجسد في هذه الحياة.

إذاً: الأجل طويل لكل واحد، لكن الإنسان لا يسوف؛ لأن الموت قريب جداً من هذا الإنسان قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤].

الأجل الثاني للتوبة بالنسبة لعامة الناس: هو طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، وهي آخر آية من آيات الساعة، ولذلك يقول الله تعالى عنها: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:١٥٨]، أي: تطلع الشمس من مغربها {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:١٥٨].