عباد الرحمن أولى صفاتهم:{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان:٦٣].
والآية (يمشون على الأرض هوناً) لها عدة معانٍ، وكل هذه المعاني تجتمع في معنىً واحد وهو الخضوع لله عز وجل، فالمتكبرون هم الذين يزعمون أنهم يطاولون الجبال أو يخرقون الأرض بأقدامهم، وإذا ساروا ساروا وهم يضربون الأرض ضرباً من شدة الخيلاء الذي أصابهم، وما مشوا على الأرض هوناً وإنما مشوا متكبرين متغطرسين مترفعين على الله عز وجل وعلى خلق الله، وهم الذين يسعون بالفساد في الأرض، ويريدون أن يبذروا بذور الفساد في الناس، ويريدون أن ينشروا في المجتمع الجريمة، وضياع الأخلاق الكريمة، والمذاهب والأفكار المنحرفة التي تتنافى مع دين الله عز وجل ومع المبادئ القويمة التي جاء بها دين الإسلام، وهم الذين يسيرون إلى معصية الله من معصية إلى معصية ومن فاحشة إلى فاحشة، ولا يسيرون على الأرض هوناً، ولا يمشون على الأرض هوناً، وإنما يسيرون مفسدين في الأرض معاجزين لله عز وجل، ولذلك فإن من صفات عباد الرحمن أنهم يمشون على الأرض هوناً.
وهناك فرق بين المشي والسعي، ولذلك نلاحظ أن كلمة (المشي) تأتي للسير لطلب الرزق الحلال، أما السعي فإنه يأتي لطلب الحسنات، ولذلك لا تجد في القرآن ولا في السنة الأمر بالسرعة للحياة الدنيا، وإنما تجد هذا المعنى بألفاظ متكررة متعددة لطلب الحياة الآخرة، فمثلاً: لما ذكر الله عز وجل البحث عن الرزق قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}[الملك:١٥]، لكن حينما ذكر الله عز وجل السعي للحياة الآخرة لا تجده بلفظ المشي وإنما بلفظ السرعة أو السعي أو الاستباق أو المسابقة، كما قال سبحانه:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}[البقرة:١٤٨]، وقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}[الأنبياء:٩٠]، وقال:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة:٩]، وقال:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[آل عمران:١٣٣]، وقال:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[الحديد:٢١]، إلى غير ذلك من الأدلة.
إذاً نقول: القاعدة أن الإنسان في طلب الحياة الدنيا عليه أن يمشي مشياً في هذه الأرض بتؤدة وتأنٍ ويقين بالله عز وجل وثقة برزقه، ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من رزق الحياة الدنيا، وليس معنى ذلك أن الإنسان عليه أن ينام ليأتيه الرزق في قعر بيته، ولكن عليه أن يمشي مشياً في هذه الأرض يبتغي رزق الله عز وجل الحلال؛ لأنه حينما يسعى سعياً وحينما يركض ركضاً للحياة الدنيا لن يصيب منها إلا ما كتب الله عز وجل له، إضافة إلى أنه ربما يقع فيما حرم الله من المعاملات المحرمة من الربا ومن الأمور العظيمة التي يقع فيها كثير من الناس، ولذلك الله عز وجل تكفل برزق كل كائن حي في هذه الحياة، حتى الحشرة وهي في جوف صخرة لابد من أن يصلها نصيبها من رزق الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[هود:٦]، فكم من حشرة صغيرة في صخرة في جوف البحر أو في قعر جبل لا ينقطع رزقها عنها أبداً! لأن الله تعالى تكفل بذلك! إذاً الإنسان ذو العقل الذي كرمه الله عز وجل به هو أولى أن يدرك رزقه، فالله تعالى قد كرمه على كثير ممن خلق تفضيلاً، ولذلك الله تعالى يقول:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:٧٠].
فالمشي المراد به السير بتواضع لا بخيلاء، المشي بتؤدة، المشي لطلب الرزق الحلال، وعدم مسابقة الزمن للبحث عن المال الحرام، وإنما البحث عن الرزق الحلال في مظانه، وترك الكسب الحرام، فلا تكبر ولا خيلاء، ولا سعي في معصية الله عز وجل، وهنا يكون الإنسان قد تقيد بأمر الله عز وجل.
وقوله سبحانه:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان:٦٣] ليس معناه الذلة كما يتصوره بعض الناس؛ فالمسلم مطالب بأن لا يكون ذليلاً، وأن لا يحني رأسه لغير الله عز وجل، أن لا يطأطأ ظهره لغير الله سبحانه وتعالى، فلا يركع ولا يسجد لغير الله عز وجل، فالهون معناه ليس من الهوان، وإنما هو من التأني، وليس معناه -أيضاً- التماوت في المشية كما نشاهده على طائفة من المتدينين اليوم، فإننا قد ابتلينا في زمننا الحاضر بقوم تدينوا على غير بصيرة، فتجدهم يعيشون حياة الذلة، وإذا مشى أحدهم تجده يمشي بذلة وباستكانة، وكأن هذا من التواضع، وهذا ليس من الدين في شيء؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينصب من مكان مرتفع، وليس معنى ذلك أنه يذهب هيبة نفسه حينما يمشي ركضاً، وإنما عليه أن يكون وسطاً بين الذلة التي فهمها بعض الناس أنها تواضع ومسكنة لله عز وجل وهي ليست من الدين في شيء وسط بين ذلك ورفع الرأس لغير الله عز وجل والتطاول على خلق الله سبحانه وتعالى.
إذاً قوله تعالى:(عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) أي: بتؤدة وتأنٍ لا يصل إلى درجة الذلة والهوان.
فهذا هو معنى قوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان:٦٣].