ثم يقول الله تعالى بعد ذلك:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ}[المائدة:٥٧]، إنه تعبير عجيب! فقوله:(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ) أي: منكم أنتم، فالمسألة ليست مسألة يهود ونصارى، وإنما المسألة مسألة خروج عن هذا الدين؛ سواء كان هذا الخارج عن الدين انتسب إلى دين سماوي منسوخ كاليهود والنصارى، أو انتسب إلى ملة منحرفة ككفرة هذا العصر الذين لا ينتسبون إلى مبدأ ولا إلى دين، فهناك ملاحدة لا دينيون، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يؤمنون بالأديان، ولا بالبعث بعد الموت، ولا بالمرسلين، ويسخرون أيضاً من الدين والعياذ بالله! وهؤلاء أيضاً هم عدو لنا أخطر من عدونا من اليهود والنصارى، ولذلك يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا}[المائدة:٥٧].
فهم يهزءون بالدين والعياذ بالله! ويقول أحدهم ساخراً: انظر إلى لحية فلان! انظر إلى ثوبه القصير! انظر كيف يصلي ويضع يديه على صدره! وهذه كلها يا أخي! من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غفل عنها الناس مدة من الزمن، ويأبى الله إلا أن تعود هذه السنة في هذا العصر المظلم، ولذلك نجد هذا الطعن في الدين يكثر في أيامنا الحاضرة، فيصل إلى درجة خطيرة جداً! والله تعالى حكم على الذين يسخرون من الدين بأنهم أئمة الكفر فقال:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}[التوبة:١٢]، ولم يقل: كفرة، وإنما قال:{أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}[التوبة:١٢]؛ لأنهم قادة الكفرة، {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ}[التوبة:١٢]، أو (لا إيمان لهم) في قراءتين سبعيتين.
إذاً: القضية قضية كفر، وليست قضية يهود أو نصارى فقط؛ بل ومن ينتسب إلى الإسلام أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى، ولذلك يقول الله تعالى:{لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ}[المائدة:٥٧]، فالذين أوتوا الكتاب من قبل هم كفار أيضاً؛ لأن دينهم منسوخ، وقوله:(وَالْكُفَّارَ) أي: من بعدكم وممن كان فيكم، فهؤلاء هم الكفار حقيقة؛ لأنهم كفروا نعمة الله عز وجل بعدما رأوا الدين والخير والنور، وصار حالهم كما قال الله عز وجل:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}[البقرة:١٧]، وما هؤلاء المرتدون عن دين الإسلام المارقون عن الدين إلا هؤلاء الذين يقول الله عز وجل عنهم -والله أعلم بأسرار كتابه- أنهم هم الكفار بعد ذكره لليهود والنصارى.
قال الله عز وجل:{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}[المائدة:٥٧ - ٥٨]، فاليهود والنصارى والمشركون كانوا يسخرون من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا نادى للصلاة، يقولون:(قاموا لا قاموا)! وهم يسخرون من المسلمين حين يصلون في المسجد الحرام، فإذا بدءوا يصلون بدءوا يضحكون ويسخرون منهم.
ومن أبناء المسلمين الآن من يفعل ما هو أكبر من ذلك، ومن يسخر من هذا الدين، ويسخر من أبيه وأمه ومنهجه ومجتمعه، لاسيما الشباب الذين انفتحوا فجأة واحدة، والذين انطلقوا في هذا العالم بعدما كانوا مضبوطين في مجتمع خاص.
إذاً: المسألة خطيرة أيها الإخوة! فهؤلاء الذين يسخرون علامتهم أنهم يسخرون من الصلاة.
وقوله:(وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي: إذا سمعوا الأذان: {اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}[المائدة:٥٨]، وليس معناه: أنهم ليس لهم عقول؛ بل لهم عقول، لكن هذه العقول ما استعملت فيما خلقت له، بل استعملت في غير ذلك؛ فبعضهم قد يكون أذكى الناس في العلوم التي يبرز فيها الذكاء، لكن عقله محدود لا يؤمن إلا بالمحسوسات، كما أخبر الله عز وجل عن هؤلاء بقوله:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم:٧].
أقول قولي هذا، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا والأمة الإسلامية -ولا نقول: الإسلام؛ لأن الإسلام محفوظ- من كيد الكائدين، سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو الوثنيين أو العلمانيين أو المندسين في صفوف المسلمين، والله المستعان:{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:٢١].