[من الدروس المستفادة من إغراق فرعون وإنجاء موسى وقومه]
هناك درسان نستطيع أن ننهي بهما البحث في قصة موسى مع بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام: الدرس الأول: لا بد من التغيير، قد يظن بعض الناس أن الدعاء والتضرع -ولو كان بصدق- يمكن أن يخلص المضطهدين والمؤمنين، ولو كانوا على ما كانوا عليه من معصية الله عز وجل، وهذا خطأ واضح جداً، ولذلك أخبر الله تعالى أخبر في القرآن: أنه يأخذ الأمة وهم يتضرعون إذا لم يغيروا، فيقول الله عز وجل:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}[الأنبياء:١١ - ١٥]، وهم يقولون: يا ويلنا، فالمسألة ليست مسألة يا ولينا إنا كنا ظالمين فقط.
إذاً: ما هو طريق العمل والإصلاح؟ فالأمة ليست مطالبة بالتندم والتحسر على هذا الدين، وإنما هي مطالبة بالإصلاح، ولذلك أخبر الله تعالى في قصة موسى مع بني إسرائيل أنهم بقوا مدة من الزمن يتضرعون بين يدي الله عز وجل، ويقولون دائماً وأبداً:{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[يونس:٨٥ - ٨٦]، لكن هذا دعاء ناشف ليس فيه تغيير أبداً، وليس فيه بذل في سبيل الله، ولا تضحية، فقط:{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[يونس:٨٥ - ٨٦]، فما نفعهم ذلك أبداً وهم يعيشون تحت الذلة والاستعباد؛ لأنهم لم يغيروا، ولم يفكروا بالجهاد في سبيل الله الذي يتخلصون به من الذلة، ولم يقدموا أغلى ما يملكون وهو المال.
فبقي بنو إسرائيل مدة طويلة من الزمن قبل أن يأذن الله عز وجل لموسى صلى الله عليه وسلم بالرحيل من مصر ببني إسرائيل وهم يدعون ويتضرعون:{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[يونس:٨٥ - ٨٦] لكنهم لم يغيروا شيئاً من وضعهم كما يفعله كثير من الناس، يكتفون بالدعاء لكنه دعاء ناشف كما يقولون.
فالذي حدث أن الله أرشدهم بأن هذا الدعاء لن يقبل إلا بتغيير وتضحية:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:٨٧]، وفعلاً بنو إسرائيل نفذوا هذا الأمر من أوامر الله عز وجل فغيروا، فجعلوا بيوتهم مكاناً للعبادة، وأقاموا الصلاة، واستقاموا على دين الله عز وجل، ثم دعوا بعد ذلك مرة أخرى، وانظر إلى الفرق بين الدعاء الأول والدعاء الثاني بعد التغيير:{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[يونس:٨٨] ما هي النتيجة؟ {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا}[يونس:٨٩]، لماذا ما أجيبت في الأول وقد مضت عليها سنوات {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[يونس:٨٥ - ٨٦]؟ لأنه ليس هناك تغيير في الواقع، فلا بد أن يكون هناك تغيير، وإذا حدث التغيير فالدعوة تستجاب من الله عز وجل.
درس آخر نختم به قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون: لما عبر موسى ببني إسرائيل البحر وأقبلوا على الأرض المقدسة أرض الشام، كان بنو إسرائيل -بالرغم من ذلك التكريم من الله عز وجل- كان الخوف يسري في عروقهم، ويختلط بدمائهم؛ فيقبلون على بلاد الشام ويقول لهم موسى:{ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ}[المائدة:٢١] لكن صاحبهم الخوف؛ لأنهم ولدوا في أرض خوف، وعاشوا في جبن وضعف قد ملأ قلوبهم، فقالوا:{إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}[المائدة:٢٢]، وبالرغم من أن النصائح توجه لهم {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ}[المائدة:٢٣]، وبالرغم ذلك كله قالوا:{إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:٢٤]، فيقولون لموسى: اذهب أنت وربك قاتل العمالقة في بلاد الشام، ونحن سنجلس هنا، حتى إذا حررتم البلاد دخلناها! هذه هي الأمة التي تقوم على هذا الضعف والإذلال! ولذلك فإننا ننصح من يتولى سلطة من سلطات المسلمين ألا يذل شعبه، وألا يذل أمته؛ لأن هذه الأمة هم سلاحه وعتاده، فحينما يذلهم بالتجسس والأذى والبطش والطغيان سوف لا يكون عنده سلاح ولا عتاد ولا قوة حينما يريد أن يدافع بهم عن حدود بلاده؛ ولذلك حكم الله عز وجل على بني إسرائيل أربعين سنة يتيهون في الأرض في صحراء سيناء، يقول المؤرخون: حتى فني الجيل الأول الذي ولد في أرض الإذلال والاستعباد، وفي الأربعين السنة هذه ولد ونشأ جيل جديد ما عاشوا على الإذلال، فدخلوا بعد ذلك الأرض المقدسة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الدعاة المصلحين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، والحمد لله رب العالمين.