ثالثاً: لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
ومن العجيب أن لهم تجارة، وأن لهم أموالاً، وأن لهم مصالح، لكن هذه المصالح، وهذه الأموال التي بأيدي هؤلاء الرجال الذين عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وآمنوا به حق الإيمان؛ لم تلههم، فهم لم يضعوا هذا المال وهذه المصالح في قلوبهم كما يضعها (أشباه الرجال) لكنهم يضعونها في أيديهم، ويضعون خشية الله عز وجل ومراقبته ومحبته في سويداء القلوب.
إذاً: هم رجال ليسوا عالة على غيرهم، كما يظن بعض الناس أن معنى قوله تعالى:{لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}[النور:٣٧] أنه ليست لهم تجارة، وليس لهم بيع، وليست لهم مصالح دنيوية، لا.
فالمسلم مطالب أن يعمر الحياة، وأن يعمل للحياة، وألا يكون عالة على غيره، وأن يكون عضواً فعالاً في هذا المجتمع، وأن يقدم الخدمات لنفسه ولأهله وذويه ولأمته، وأن يكون عنصراً نشيطاً حياً، لكن يجب عليه ألا يضع شيئاً من ذلك في قلبه! بل يجب أن يفرغ قلبه لخشية الله عز وجل وللحياة الآخرة، وعليه أن يضع هذه الأشياء في يده.
هذا هو المعنى المفهوم من قوله تعالى:(رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أي: لهم تجارة، ولهم بيع، ولهم دكاكين، ولهم مصانع، ولهم متاجر، ولهم أعمال، لكن هذه الأشياء كلها يعتبرونها وسيلة وليست بغاية، أما لو انزووا في زاوية من زوايا الحياة، وأصبحوا عالة على المجتمع، وأصبح غيرهم ينفق عليهم، وأصبحوا يتركون دفة الحياة يديرها من لا خلاق له ولا دين له، فإن هذا سوف يُحدث خللاً في المجتمع، فينتشر الفساد، وتنتشر المعاملات المحرمة كالربا، وتفسد الحياة كما هو حاصل في عصرنا الحاضر في بعض الأماكن.
هؤلاء الرجال لهم تجارة، ولهم بيع، والدليل على ذلك: أن أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ذات يوم بالسوق، وكان الناس قد فتحوا دكاكينهم يبيعون ويشترون، فإذا بالمنادي ينادي: حي على الصلاة! حي على الفلاح! وكان أحدهم قد رفع الميزان بيده لكي يزن البضاعة، فرمى بالميزان على الأرض، وأغلق الدكان، ومشى إلى المسجد، فقال الصحابي: انظر يا أخي! هؤلاء هم الذين قال الله عز وجل فيهم: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).