للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق)]

قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)، أي: يا محمد (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، لا برأيك.

إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يحكم برأيه فهل يجوز لفاجر جبار عنيد أن يأتي في مثل عصرنا الحاضر لينحي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ليحكم بين الناس برأيه أو بآراء الرجال وبقوانين البشر؟! لا يمكن هذا بأي حال من الأحوال، (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، أي: بما وجهك الله إليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم حتى في أحاديثه الشريفة التي سماها الله عز وجل الحكمة ليست رأياً له، وإنما هي بوحي من الله عز وجل، ولذلك فإن الكتاب والسنة كلاهما وحي من الله عز وجل، لكن هذا وحي هو كلام الله عز وجل مباشرة، وذاك وحي جعله الله عز وجل في قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه إلى الناس بلسانه، أما الجميع فكلاهما وحي من الله عز وجل، ولذلك لا يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم برأيه في أي أمر من الأمور، وإذا حكم برأيه فإنه يقول للناس: أعينوني برأيكم، كما فعل صلى الله عليه وسلم يوم بدر في اختيار المكان وكما هو موقف الحباب بن المنذر، وكما كان قبل ذلك حينما كان يستشير المهاجرين والأنصار، وغيرها قصص كثيرة، حتى لقد عاتبه الله عز وجل في كثير من هذه القصص كقصة ابن أم مكتوم حينما أعرض عن الأعمى وما أشبه ذلك من الأمور، حتى قال الله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام:٣٥] حتى يصل العتاب من الله عز وجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا المستوى.

إذا كان هذا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى أي واحد من البشر يأتي وهو معرض للخطأ والزلل أن يعترف بخطئه، ثم إذا كان هذا بالنسبة لحكم الله عز وجل لا بد أن ينفذه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله لا برأي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يحق لواحد من البشر أن يحكم هذا العالم، بل لا يمكن لهذا العالم أن يخضع لغير حكم الله عز وجل، ولذلك فإن من أعرض عن حكم الله عز وجل فهو طاغوت، ومن حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، وأي شعب وأي أمة تتحاكم إلى قوانين الرجال وآراء البشر فهي أمة زائغة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:٦٠].

إذاً: لا بد أن يكون الحكم بما أنزل الله عز وجل لا برأي أحد من الرجال أياً كان هذا الرجل، ولو كان محمداً صلى الله عليه وسلم.

(لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، المخاصمة على الخائن تسبب لعنة من الله عز وجل، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (لعن الله من آوى محدثاً)، ما معنى آوى محدثاً؟ أي: غطى على حدثه ومصيبته، وعلى جرمه وذنبه؛ حتى يضيع هذا الجرم أو لربما يلتصق هذا بإنسان بريء كما هو في هذه القصة، ولذلك قد تأخذ الحمية إنساناً بسبب قرابة أو بسبب عداوة ليدافع عن مجرم أو ليلصق التهمة ببريء، وهنا تأتي المصيبة التي تحدث عنها القرآن في مثل هذه الآيات: (وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، فالمخاصمة عن الخونة، والمدافعة عنهم، والثناء عليهم، وتبرئة ساحتهم أمر خطير جداً لا يجوز لواحد من المسلمين أن يقدم عليه.