[استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وبدء المعركة]
وحينئذ وقف عليه الصلاة والسلام يستشير قومه أصحاب العدد القليل في القتال، فيحبذ المؤمنون القتال، ويقوم زعيم المهاجرين المقداد بن الأسود رضي الله عنه فيقول: يا رسول الله! والله لقد آمنا بك وصدقناك، فلو خضت بنا برك الغماد لخضناها معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:٢٤]، ولكن: اذهب فقاتل فإنا معك مقاتلون.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال مرة أخرى:(أشيروا علي معشر القوم -وكأنه يريد أن يأخذ رأي الأنصار- فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! لعلك تعنينا، والله لقد آمنا بك وصدقناك، وعلمنا أن ما جئت به هو الحق، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه وراءك -يشير إلى البحر الأحمر- ما تخلف منا رجل واحد، وإنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، وإنا لنرجو أن يريك الله منا ما تقر به عينك).
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضى ليلة سبعة عشر من رمضان -أي مثل هذه الليلة- ما بين ساجد وراكع لله عز وجل، يمد أكف الضراعة ويستدر رحمة الله عز وجل، ويقول لربه:(اللهم أنجزني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة لا تعبد في الأرض).
وهكذا يكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة توسله بين يدي الله، حتى إذا كان الصباح وبدأت المعركة، كانت قد أعطت لوناً جديداً من الجهاد لم يعرفه تاريخ الإنسان منذ القدم، لقد وقف هذا العدد القليل أمام ذلكم الحشد المسلح، ثم ينتصر المسلمون في المعركة! ولقد وصفها لنا أحد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يقول: والله إننا لنرى الرأس يطير، ونرى اليد تقطع، ولا نرى من الذي يفعل ذلك! لأن الله سبحانه وتعالى يقول:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال:١٢ - ١٣].