لقد أعطى الله تعالى لأمة محمد عليه السلام أمانين من الاستئصال، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأمان الأول: ألا يعذبهم ما دام محمد فيهم حياً، وذلك لا يمنع أن تُعذب طائفة منهم كما حصل يوم بدر، فقد أهلك الله يوم بدر سبعين من رءوسهم، لكن الاستئصال الكامل لهذه الأمة لا يحدث أبداً، بخلاف الأمم السابقة التي قد استؤصل بعضها؛ لأن الله سبحانه وتعالى كلما أهلك أمة جاء بأمة جديدة وأرسل إليها رسولاً جديداً، لكن هذه الأمة هي آخر الأمم، ورسالتها آخر الرسالات، ونبيها آخر المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وكتابها آخر الكتب السماوية، ولذلك أعطى الله تعالى لرسوله عليه السلام هذين الأمانين، الأول:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}[الأنفال:٣٣].
والأمان الثاني:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:٣٣] ومعنى (يستغفرون): يقولون نستغفر الله، وقيل: إنهم كانوا يستغفرون خصوصاً إذا ركبوا في الفلك ويدعون الله مخلصين له الدين، وقيل: كان أحدهم إذا طاف بالبيت قال: لبيك لا شريك لك.
لكنهم يلوثون هذا التوحيد بقولهم: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك! وهم مع هذا خيرٌ من مشركي هذا العصر؛ لأن مشركي هذا العصر لادينيون كفرة ملاحدة، لا يعرفون الله في حال الرخاء ولا في حال الشدة، أما أولئك فكانوا يفزعون إليه حال الشدة وينسونه حال الرخاء، ومعنى ينسون الله، أي: يشركون به.
فقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:٣٣] دليل على أهمية الاستغفار في ساعة الشدة وأيام الحروب؛ كهذه الأيام التي نعيشها، فهل يستغفر الناس فيها؟! أولئك الذين ادخروا الأرزاق في بيوتهم لسنين خوفاً من الحرب المدمرة هل استغفروا الله تعالى من سيئاتهم؟! إن الله تعالى لا يرفع العذاب عن هذه الأمة إلا إذا استغفرت وتضرعت إلى الله في كشف ما بها كما قال:{فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:٤٣].