[الإعراض عن السفهاء والجهلة]
من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:٦٣].
والجاهل هو الذي لا يتصور عواقب الأمور ولا يفكر.
وقوله: (قالوا سلاماً) يحتمل أمرين: يحتمل أنهم يسلمون على هذا الجاهل، ولنا ملحوظة على هذا المعنى؛ فإن السلام على غير المسلم لا يجوز، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، وذلك أيضاً لا يعني أن نؤذي غير المسلمين في بلاد الإسلام، ولكن ذلك يعني أن لا نرفع رءوسهم -أيضاً- في بلاد الإسلام، حتى لا يترفعوا على إخواننا المسلمين، فبدء اليهودي والنصراني والكافر أياً كان بالسلام لا يجوز، ولكن حينما يسلم ونتأكد من أنه يسلم السلام الحقيقي نرد عليه، وإذا كان عندنا شك في ذلك فنقول: (وعليكم) كما كان اليهود يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة: السام عليكم، والسام معناه الموت والهلاك.
وعلى هذا نقول: إن قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:٦٣] يعني: يسلمون إذا كان الجاهل مسلماً.
أما إذا كان غير مسلم فلا يجوز، هذا المعنى.
ويمكن أن نحمل هذه الآية على معنىً آخر، وهو أنهم يقولون: (سلاماً)، أي: يقولون قولاً سلاماً.
أي: لا يردون على الجاهل بجهله، فإذا شتمه إنسان يدعو له، وإذا أساء إليه إنسان يحسن إليه، وإذا رأى منه جفاءً يريه من نفسه ألفةً ومحبة إذا كان مسلماً؛ لأن الله تعالى ذكر صفات المسلم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:٥٤]، وعلى هذا نقول: معنى (سلاماً) أي: قالوا قولاً سلاماً.
والقاعدة التي جاء بها الإسلام للقضاء على الأحقاد والأضغان في المجتمع هي رد السيئة بالحسنة، فإذا أساء إنسان إلى إنسان فعلى من أسيء إليه أن يقدم حسنة بدل هذه الإساءة، وهذه الحسنة التي يقدمها ذلك الإنسان الذي أسيئ إليه تعتبر علاجاً للأدواء الاجتماعية التي عجز علماء الاجتماع عن علاجها، فإنه حينما يشتمك وتدعو له وحينما يؤذيك جارك بأذى فتقدم له الإحسان سوف يخجل، وحينما تسمع كلمة نابية سيئة من إنسان مسلم وتقدم له كلمة حسنة تقابل فيها هذه الكلمة السيئة سوف تجد ذلك الإنسان الذي أساء إليك يندم على ما قدم من إساءة، ويحاول أن يتقرب إليك، وهذا العلاج هو ما أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤]، فالعدو لك إذا أحسنت إليه وقابلت العداوة بالصداقة وقابلت الأذى بالإحسان تتغير صفاته، وحينئذٍ يقدم لك الإحسان، فيصبح كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤]، لكن تحمل هذا الأمر والإحسان إلى من أساء لا يطيقه إلا إنسان قوي الشكيمة صبور يريد أن يحبس نفسه على طاعة الله من أجل أن يكسب رضا الله تعالى، ثم بعد ذلك يكسب رضا الناس، ولذلك الله تعالى يقول: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:٣٥]، وأنا متأكد من أن الجيران الذين تفسد علاقات بعضهم مع بعض والأصدقاء الذين تفسد علاقاتهم فيما بينهم -بل والأقارب والعشيرة الذين تفسد ذات بينهم- أكثرها بسبب أن أحدهم إذا أساء إلى إنسان منهم قدم إساءة أكبر أو مماثلة من أجل أن ينتقم، وحينئذٍ تستمر هذه العداوة.
فحينما يشتمك فتشتمه، ويسيء إليك فتقدم إليه إساءة أكبر، ويمكر بك فتمكر به حينئذ تستمر هذه النار تلتهم فتهلك الحرث والنسل، وتفسد العلاقات بين الناس لاسيما بين الأقارب، وهذا هو ما يحدث كثيراً في أيامنا الحاضرة.
وهناك سؤال يطرح نفسه في هذا الأمر، وهو أننا نجد أن الله عز وجل في سورة الشورى مدح الذين ينتقمون إذا أسيء إليهم فقال سبحانه وتعالى في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:٣٩]، وبعدها قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:٤٠]، فكيف نستطيع أن نجمع بين هاتين الآيتين؟ هل إذا أساء إليك إنسان تحسن إليه فتأخذ بقول الله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:٤٣]، وقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:٦٣]، أو تأخذ بالجزء الآخر من الآيات وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:٣٩]؟ يشكل هذا الأمر على كثير من الناس، ولكن نستطيع أن نقول: إن الأمر لا يخلو من إحدى حالتين: فإذا كانت الإساءة غير مقصودة من مسلم، وكانت هناك هفوة وكانت هناك زلة فكانت هناك كلمة إساءة إليك فعليك أن تتقبلها بصدر رحب، وأن تعفو عمن أساء إليك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)، وهذا هو الذي أثنى الله عز وجل عليه بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:٦٣]، وقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:٤٠].
أما إذا جاءت الإساءة للحط من شأن مسلم من المسلمين، أو كانت إساءة إلى الأمة الإسلامية، فكانت مقصودة متعمدة من أجل الحط من إنسان مسلم وتحقيره وأذيته، لاسيما إذا جاءت من أعداء الإسلام، أو كان الهدف من ورائها الحط من الأمة الإسلامية ففي مثل هذه الحال لا يجوز العفو؛ لأن العفو يعني الذلة والمهانة من الأمة الإسلامية أو من المسلم حينما يستسلم لعدوه، ولذلك الله تعالى مدح الذين ينتقمون إذا أصابهم البغي، وكلمة (البغي) تعطينا المعنى الفارق بين العمد وغير العمد، بين من أراد أن يذل مسلماً أو يذل الأمة الإسلامية ومن هفا وأخطأ، فعلينا أن نتحمل هفوته وخطأه، فالله تعالى قال في باب المدح: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:٣٩]، فالانتصار للأمة الإسلامية ولدين الله عز وجل أمر مطلوب، أما الانتصار للنفس فإن العفو أفضل منه.