للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستقامة هي الأصل في الفطرة الإنسانية]

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والشكر لله الذي يجمع القلوب على طاعته {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:٦٣].

والصلاة والسلام على رسوله الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.

اللهم! صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض -اللهم- عن آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن الاجتماع في بيوت الله على ذكر الله وطاعته يبث السرور في النفس والغبطة في القلب، وما ذلك بجديد على الحياة، فإن الله تعالى قد أخبرنا أنه سوف يظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولكن الشيء الذي نستطيع أن نقول: إنه جديد هو أن الكثرة الساحقة والسواد الأعظم في مجالس الذكر هي من شباب المسلمين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق الصحوة الإسلامية المباركة، وأن لها جذوراً ضاربة في أعماق الأرض، وأن هذه هي الثمرة التي كنا ننتظرها منذ أمد بعيد، فأقرّ الله عيوننا بتلك الوجوه الطيبة.

ألا فليطمئن الناس على دين الله، بل إن دين الله عز وجل ليس بحاجة إلى الناس، ولكن الناس بحاجة إلى دين الله، وإن ما يحدث في هذه الأرض من انحرافات وانجرافات وراء التيارات إنما هو خلاف الفطرة، أما الفطرة فقد أخبر الله عز وجل بأنها هي التي ولدت مع هذا الإنسان، ولا تغيير لها أبداً، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:١٧٢].

هكذا ولدت الفطرة مع الإنسان، والفطرة باقية ثابتة {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:١٣٨].

إذاً نحن متفائلون، والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وإذا رأينا الخير في الشباب فلنعلم يقيناً أن الصحوة متزنة من جميع نواحيها، ولذلك فليفرح اليوم المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء.

ولا نريد أن نذهب بعيداً عن موضوعنا الذي حددناه، فهو عن أسباب الاستقامة وأسباب الانحراف، ولنأخذ ذلك كله من قول الله عز وجل: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:١١٢]، ثم نأخذ بعد ذلك جزاء هذه الاستقامة، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:١٣]، وفي الآخرة أيضاً يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:٣٠ - ٣٢].

والاستقامة هي الالتزام، مِن (قام الشيء) بمعنى: اعتدل.

والانحراف معناه الاعوجاج، وهذان دليلان على أن الأصل في الأشياء كلها الاستقامة، وأن الانحراف إنما هو حادث وطارئ، كما عرفنا من خلال الآية الأولى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:١٧٢]، كما أن الله عز وجل أشار إلى أن الاستقامة هي الأصل في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:٢١٣] أي: على ملة واحدة {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:٢١٣] أي: فانحرفوا فبعث الله مبشرين ومنذرين.

إذاً الاستقامة هي الأصل، والانحراف هو الذي يتنافى مع الفطرة ومع الأصل، ولذلك فإننا نقول: إن الذين يأخذون بهذا الحق وبهذا الدين هم الذين يسيرون على الطريق المستقيمة، لا شك ولا ريب في ذلك، وإن الذين ينحرفون عن هذه الطريق المستقيمة هم الذين تذهب بهم شياطين الإنس والجن هنا وهناك إلى مذاهب شتى.

ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه: (قرأ قول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:١٥٣] ثم خط خطاً طويلاً معتدلاً مستقيماً وقال: هذا صراط الله.

ثم خط عن يمينه وعن شماله طرقاً متعددة وقال: هذه هي السبل، وعلى كل سبيل منها شيطان، وعليها سُتُر مرخاة، فإذا أوشك الإنسان أن يفتح واحداً من هذه السُتُر المرخاة ناداه مُنادٍ: ويحك -يا عبد الله- لا تفتحه؛ إنك إن تفتحه تَلِجْه، وإن تلجه لا تخرج منه إلى يوم القيامة) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.