ثم بعد ذلك يأتي المظهر الأخير من مظاهر الاستقامة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيقول الله عز وجل:{فَلَوْلا كَانَ}[هود:١١٦] أي: فهلا كان {مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}[هود:١١٦] أي: في الأمم كلها يقل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتجه إليه إلا الذين يستحقون النجاة من عذاب الله عز وجل.
(إلا قليلاً ممن أنجينا منهم) فأنجاهم الله عز وجل من الخوف من البشر، وأنجاهم الله عز وجل من العذاب في الدنيا؛ لأن الله تعالى إذا أنزل عقوبته إنما ينزلها بالذين يفعلون الفواحش والذنوب، والذين يسكتون عليها.
أما الذين ينهون عن الفساد في الأرض فهم الذين ينجيهم الله عز وجل، وتدل أدلة كثيرة على أن الله سبحانه وتعالى لا ينجي من عذابه إذا أنزله بأمة من الأمم إلا الذين ينهون عن السوء، كما ذكر الله عز وجل في قصة أصحاب السبت قال تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}[الأعراف:١٦٥].
وعلى هذا فإننا نقول: لا بد من أن تقيم الأمة الإسلامية جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تكون الاستقامة في مجتمع من المجتمعات عطل فيه هذا الجانب العظيم، الذي هو في الحقيقة الذي يحمي هذا الدين؛ لأن هذا الدين يحمى بقوة البيان، ويحمى بقوة الحديد والنار؛ ولذلك أخبر الله تعالى أنه أنزل الكتب السماوية وفيها العدل والخير، لكنها لا بد أن تحمى بقوة الحديد والنار، وهو جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال عز من قائل:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[الحديد:٢٥]؛ ولذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه: لا خير في حق إذا لم تحمه حلق الحديد وألسن النيران والذين يظنون أن هذه الأمة غير مطالبة بأن تتخذ جانب القوة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأنها تكتفي فقط بأن تقول: هذا منكر، أو هذا حق، إذا وصل الأمر إلى هذا الحد فإن الأمة تكون عطلت جانباً عظيماً من جوانب هذا الدين.
فالدعوة إلى الله غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وزع المسئولية على ثلاث مراحل: الإنكار باليد، وهذا في الأصل للسلطة، ولكل من يستطيع أن ينكر باليد فإن عجز فعليه أن ينكر باللسان، فإن عجز عن ذلك -ولا يكون ذلك إلا في مجتمعات خاصة نسأل الله العافية والسلامة، وفي ظروف خاصة نسأل الله أن يحفظنا حتى لا ندركها- كان الإنكار بالقلب فقط.
ولذلك هذا يعتبر أضعف الإيمان، أما إذا وصل الأمر إلى أن تألف القلوب المنكرات؛ لأنها تعيشها مدة طويلة من الزمن، وتختلط بلحمها ودمها حتى لا تنكرها في القلب فذلك أخطر المراحل، وهو الذي أشار الله عز وجل إليه في قوله في سورة الأنعام:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ}[الأنعام:١١٣] حينما يكون مألوفاً {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}[الأنعام:١١٣].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لأفضل طريق إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة، وأن يثبت أقدامنا في عصر زلت فيه كثير من الأقدام، وأن يتوفانا وإياكم على منهج الاستقامة غير مضيعين ولا مبدلين.