[المسلم كالتاجر لابد أن يدقق في المحاسبة]
إنّ مرور هذه الأيام والسنين آية من آيات الله عز وجل قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا * وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:١٢ - ١٣].
وإن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم طويل باق ما بقيت الحياة الدنيا، وهو موجود منذ أن أهبط الله عز وجل أبانا آدم من الجنة، وأهبط عدوه إبليس، وقال لهما: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:١٢٣].
ومنذ ذلك الوقت والشيطان يتربص الدوائر بابن آدم، وقد توعد ابن آدم فقال: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:١٧]، فهذا أحد الأعداء.
والنفس عدوة للإنسان أيضاً، فهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، والشهوات التي جعلها الله عز وجل بيننا وبين الجنة خطيرة في سبيل هذا الإنسان أيضاً؛ ولذلك فإن هذا الإنسان على خطر، وعليه أن يستعد لكل أعدائه، وأن يأخذ من السنين والأيام العظة والعبرة، فإن هذه الأرض قد عاش عليها من عاش من هذه البرية، وكل جيل ينتهي، ويأتي جيل آخر، وهكذا كتب الله عز وجل الفناء على كل كائن حي، وما مرور الأيام والسنين إلا درس وعبرة لهذا الإنسان.
إن التاجر الذي يعمل طول عمره في التجارة، ويبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويتعامل مع الناس، لا بد أن تكون له ساعة يفتش فيها دفاتر تجارته؛ لينظر ربحه أو خسارته، وهذا أمر فطري طبعي فطر الله عليه هذا الإنسان.
وإن المسافر سفراً طويلاً وهو يمر بلوحات الطريق ومنعطفاته لا بد أن يقف أمام كل منعطف، وحول كل لوحة من لوحات الطريق؛ لينظر مقدار الطريق الذي قطعه، وماذا بقي عليه؟ وكم معه من الزاد؟ وهل معه ماء يبلغه؟ وهذه سنة الله أيضاً في الحياة.
ونحن تجار مع الله، ومسافرون إلى الدار الآخرة، وبداية عام ونهاية عام تعتبر من أهم معالم الحياة ومنعطفاتها التي تستوقف المسلم؛ لينظر في ربحه أو خسارته، ولينظر مقدار الطريق، ومقدار ما بقي، وما قطع.
نقف في هذه الفترة من الزمن التي ابتدأ فيها العام الجديد، وانتهى فيها العام الأول، وعلينا أن نتيقن من أن ما قدمناه في العام السابق محفوظ كما قال تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:٦]، وأن الله عز وجل قد وكل بكل واحد منا ملائكة تعلم ما يفعل كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:١٢]، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨].
وقد يتجاوز الله عز وجل عما يتجاوز عنه من تلك السيئات، ويضاعف ما يضاعفه من هذه الحسنات، وقد أعد الله عز وجل لكل إنسان كتاباً، تطوى في كل يوم صفحة من صفحات ذلك الكتاب، لتفتح في اليوم الآخر صفحة جديدة بيضاء نقية، وهذا الإنسان يكتب له فيها ما يكسبه من صالحات أو سيئات، ثم إذا كان يوم القيامة فتحت هذه الصحائف، ونشر ذلك الكتاب: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:٤٩] {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [الإسراء:١٣] أي: نصيبه وحظه {فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:١٣] فيقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٤].
هذه هي حصائد الأعمال، وثمرات الأيام والليالي التي قضيتها -أيها الإنسان- في حياتك، ويؤتى بهذه الصحائف، وينصب ميزان العدل يوم القيامة، وتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، ويوقف الإنسان بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك من ملائكة الله، وتوزن الحسنات والسيئات، فإن ثقلت الحسنات نادى الملك: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفت الحسنات وثقلت السيئات نادى هذا الملك: شقي فلان شقاوة لن يسعد بعدها أبداً.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، فالمسألة ليست مسألة أجسام، أو أحساب، أو آباء وأجداد وأنساب، أو كراسي، أو رتب عسكرية، أو أي ميزة من الميزات التي يتمايز بها الناس في هذه الحياة الدنيا؛ وإنما هي الحسنات والسيئات، وإنما هي الثمرة التي تغرس غراسها بنفسك في كل يوم وليلة، وفي كل ساعة ودقيقة وثانية من عمرك في هذه الحياة.
ولذلك صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل ينشر على عبد من عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، فيقول الله عز وجل لعبده: أظلمك كتبتي الحافظون؟ ألك عذر؟ ألك حسنة؟ -فيبهت الرجل، ويعلم أنه قد هلك، ولكن لطف الله عز وجل لا يفوت إلا من مات على الكفر أو على الشرك- فيقول: لا، فيقول الله عز وجل: بلى إنك لا تظلم، إن لك عندنا حسنة، فيؤتى ببطاقة فيها: أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
فتوضع السجلات في كفة وهذه البطاقة في كفة، فيقول هذا الإنسان: يا ربي! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم، ثم تطيش السجلات، وتثقل البطاقة)؛ لأن فيها لا إله إلا الله.
إن هذه الكلمة يقولها المؤمن والمنافق، والعاصي والمستقيم، لكن لا يستفيد منها إلا من عرف أهميتها، وعمل بمقتضاها؛ فلم يحن رأسه لغير الله عز وجل كائناً من كان، ولم يطأطئ ظهره لغير الله عز وجل، ولم يتمسح بأعتاب ميت كما يعمل المخرفون وأصحاب البدع والوثنيون، ولم يحن رأسه أمام أعتاب حي من الأحياء كما يعمل هؤلاء المتملقون لغير الله عز وجل.
فهذه بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه السجلات عددها تسعة وتسعون سجلاً، وكل واحد منها مد البصر، ومع ذلك تثقل (لا إله إلا الله) بتلك السجلات، فحققوا يا إخوتي! (لا إله إلا الله)، وستجدون في طريقكم كل خير وسعادة، وتخلصوا من الشرك، ومن حقوق البشر، واعلموا أنكم تقدمون على رب كريم.