للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عدم انشغالهم بالدنيا عن ربهم وطاعته وذكره]

الصفة الأولى: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ).

يقول المفسرون: إن هؤلاء الرجال لهم تجارة ولهم بيع وشراء وأموال ومصانع ومتاجر ومزارع، لكنهم يضعونها في أيديهم، ويضعون الحياة الآخرة في قلوبهم، ولذلك لما رأى أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المسلمين كان قد رفع الميزان في يده يزن البضاعة للمشتري، فلما سمع المؤذن يقول: (الله أكبر) وضع الميزان دون أن يكمل الوزن، ثم هرول إلى المسجد وأغلق دكانه، فقال: (هؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:٣٧]).

ولا يظنن أحد أن المراد بهؤلاء أنهم قوم يعيشون عالة على الناس ويتكففون الناس، وأنهم يعيشون على أوساخ الناس وفتات الصدقة، لا، ولكنهم قوم لهم أعمال، إلا أنهم جعلوا هذه الأعمال المادية الدنيوية في أيديهم والآخرة في قلوبهم، ولذلك وصفهم الله عز وجل بهذه الصفات: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).

أيها الأخ الكريم! نحن الآن نعيش على طرفي نقيض في هذه الحياة، فمن الناس من أغرق في المادية إغراقاً كاملاً وأهمل الروح، وهذا يتمثل في الإلحاد والشيوعية الحاقدة الكافرة، فقدسوا المادة وأهملوا الروح، وأصبحت المادة هي منتهى أمنياتهم.

وهناك آخرون أوغلوا في الروحانية وألغوا المادة إلغاءً نهائياً، وصار دينهم، أما دين الإسلام فإنه يوجب على المسلم أن تكون له صنعة وأن تكون له تجارة وأن تكون له وسيلة كسب، لكن هذه كلها لا تلهيه عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك الله تعالى جعلنا -أمة المسلمين- أمة وسطاً بين طرفي نقيض، فلسنا بالأمة المادية التي تقدس المادة وتعبد المادة ولا تعترف إلا بها، ولا بالصوفية التي تهمل الجسد وتقدس الروح، ولكننا أمة كما يقول الله عز وجل: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ).

وهنا كلمة نقولها لإخواننا التجار: اصدقوا في المعاملة، وتعاملوا مع الناس بأمانة وصدق، واكسبوا هذا المال من الحلال، وأنفقوه في وجوه الخير، واحذروا كسب الحرام، واحذروا أن تلهيكم هذه الأموال عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحينئذٍ أبشروا فإن الله عز وجل قال للرجل الغني الشاكر الذي فتح الله له كنوز الدنيا: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:٣٠]، كما قال للرجل الفقير الصابر: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:٤٤].

وعلى هذا نقول: هؤلاء الرجال لهم تجارة، ولكن تجارتهم في أيديهم وليست في قلوبهم، فإذا دخل أحدهم في الصلاة وقال: (الله أكبر)، لا تأتي هذه التجارة في مخيلته، فلا يبيع ولا يشتري ولا يأخذ ولا يعطي وهو يصلي، بل هو واقف بين يدي الله عز وجل كما أمر الله عز وجل، لكنه حينما ينصرف من صلاته فإنه الرجل الذي يتعامل مع الناس بأمانة وصدق، والتاجر الصدوق له أجره عند الله عز وجل، وهنا مدح الله المؤمنين وهم أصحاب تجارة فقال: (لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)، والفرق بين التجارة والبيع أن التجارة هي التي تكون بالإيراد والاستيراد والبيع الإجمالي، أما البيع فالمراد به البيع الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم.