[ولاء المنافقين لليهود والنصارى]
لما نزلت هذه الآية كان المنافقون في المدينة -مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم- يعايشون المسلمين، ويندسون في صفوف المسلمين، واليهود كانوا موجودين في المدينة، واليهود يعتبرون أنفسهم أكثر أهل المدينة في ذلك العصر، وفيهم ثلاث قبائل: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، وهي من أكبر قبائل اليهود في المدينة، لما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي لعنه الله -كما يقول ذلك أيضاً المنافقون في أيامنا الحاضرة- قال: نحن لا نثق بمحمد، فمحمد ليس ركناً نعتمد عليه، نريد أن نعقد حلفاً مع بني قريظة وبني النضير، نخشى أن تصيبنا دائرة! ومعنى هذا الكلام: أنه يقول: نحن في المدينة مهددون بعدما جاء محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيقول: نريد أن نعقد حلفاً مع اليهود، ونريد أن نربط أنفسنا باليهود، ولو كان الله يقول: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} [المائدة:٥١]، فهو يقول: لا، سنتخذ اليهود أولياء؛ لأننا نخشى أن تصيبنا دائرة، فيهجم علينا أحد من أعدائنا من الخارج، فنستعين بهؤلاء اليهود، ولما قال هذه المقالة الخبيثة التي يقولها اليوم كثير من الناس، الذين لا يثقون بالله عز وجل، ولا يثقون بقوة الله ولا بنصر الله، ويقولون: نريد أن نعقد حلفاً مع أولئك القوم؛ لأننا نخشى أن يهجم علينا أحد من جيراننا أو من الأباعد، فنعقد مع هؤلاء حلفاً أو صلحاً أو هدنة أو تعاوناً أو ما أشبه ذلك؛ لأننا نخشى أن تصيبنا دائرة.
والله تعالى أنزل قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة في ابن أبي، ومن سار على شاكلته من الذين يشعرون بالضعف، ولا يعتمدون على الله عز وجل في أمورهم، ثم على أنفسهم بعد ذلك، يقول الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة:٥٢]، أي: نفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:٥٢]، أي: يسارعون في اليهود، وربما في اليهود أو في النصارى، فهذا ابن أبي يقول: أنا أعقد حلفاً مع اليهود؛ أخشى أن تصيبني دائرة.
قال الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة:٥٢]، أي: نفاق، {يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:٥٢]، وانتبه يا أخي! إلى قوله: (فِيهِم)، ولم يقل: (إليهم)، والفرق بين (إليهم) و (فيهم) بعيد جداً، فـ (إليهم) تعني: يذهبون إليهم ويعقدون معهم صلحاً، لكن (فيهم) أي: يدخلون في وسطهم، فكأن هؤلاء ما اكتفوا بأن يعقدوا معهم حلفاً، وإنما اعتبروا أنفسهم جزءاً منهم، ولذلك ارتدوا عن الإسلام؛ لأنهم دخلوا في وسط اليهود، وأصبحوا -أي: المنافقون- يهوداً مثلهم؛ لأنهم يخشون أن تصيبهم دائرة، ولذلك قال الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم} [المائدة:٥٢]، ولم يقل: إليهم، لماذا؟ لأنهم: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:٥٢]، أي: نخاف أن يهجم علينا أحد أو أن تصيبنا مصيبة ونحن ما استعددنا للقتال، وما عندنا إمكانات ولا عندنا أسلحة ولا تدريب، فنريد أن نعقد الحلف مع اليهود؛ حتى لو هجم علينا أحد من خارج المدينة نستطيع أن ندافعه بهؤلاء اليهود باعتبارهم داخل المدينة، فقال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:٥٢]، عسى من الله واجبة.
وعسى في اللغة العربية تأتي بمعنى الترجي، لكنها من الله عز وجل ليست بهذا المعنى، وإنما (عسى) بمعنى: حري وقريب أن يأتي فتح من الله عز وجل، والمراد بالفتح: عز الإسلام وظهور الأمة الإسلامية، واستعداد الأمة الإسلامية لعدوها في أنفسها واعتمادها على أنفسها بعد الله عز وجل، وهذا يعني قرب ظهور الإسلام في الأرض، وبذلك يفشل عبد الله بن أبي لعنه الله ومن على شاكلته من المنافقين، ويتحطم اليهود أمام قوى المسلمين، وهذا هو الذي حدث بعد مدة وجيزة، فلم تمض سنوات قصيرة إلا وقد تحطمت كل فئات الكفر الثلاث المسيطرة على المدينة، فكلها تحطمت تحت أقدام المسلمين، حتى كان آخرهم بني قريظة الذين حكَّم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بأن يقتل كل رجل بالغ، وتسبى النساء والذرية، وتصير أرضهم ملكاً للمسلمين.
إذاً: هذا تحقيق لخبر الله عز وجل؛ لأن (عسى) وإن كان أصلها في اللغة العربية للترجي، لكنها إذا جاءت من عند الله فمعناها التحقق والتأكد، أي: حري ومؤكد أنه سوف يأتي يوم يندم فيه كل إنسان يربط نفسه بعجلة الكافرين ويخشى أن تصيبه دائرة، وذلك حينما يأتي نصر من عند الله عز وجل، وإذا جاء نصر من عند الله يصبح هؤلاء القوم على ما أسروا من النفاق حينما ربطوا أنفسهم بالكافرين: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:٥٢].
وظهر الإسلام والحمد لله، وأصبح اليهود عبيداً يباعون ويشترون ويشغلون قسراً في بلاد المسلمين، وصارت أراضيهم ملكاً للمسلمين في المدينة وخيبر، وتحقق هذا الوعد، ويتحقق هذا الوعد دائماً وأبداً، ويعود الكافرون أذلة أمام المسلمين حينما يصدق المسلمون مع الله عز وجل، أما حينما يشعر المسلمون بالذلة والمهانة وهم في بلادهم وفي أرضهم، ويستخدمون عدوهم ليدافع عنهم وهم عاجزون، فهذا هو العار الذي يصيب الأمة الإسلامية في أيام تخلفها.
أما الله عز وجل فقد حكم بأنه سوف يظهر هذا الإسلام بالرغم من الذلة التي يشعر بها المسلمون في يوم من الأيام، فسوف يظهر هذا الإسلام، ويندم الذين كانوا بالأمس يعتمدون على غير المسلمين من دون الله عز وجل.
وقوله: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)، أي: ظهور الإسلام، (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)، أي: أمر لا يعلمه الناس، فقد تكون العلامات والأدلة تدل على أن المسلمين متخلفون، سواء كان في الصناعة أو في الإنتاج أو في التكتيك العسكري أو في التجنيد أو ما أشبه ذلك، لكن الله عز وجل له جنود السماوات والأرض، فعليهم أن يتجهوا إلى الله عز وجل، وأن يرتبطوا بالله عز وجل، وحينئذ يأتي أمر من عنده لا يعلمه الناس، وبعد ذلك إذا جاء أمر الله تتغير وجهة نظر أولئك الذين كانوا يريدون أن يربطوا أنفسهم بعجلة الكافرين ويقولون: (نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ)، وحينئذٍ (فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ).