[التوسط في الإنفاق]
ثم يقول الله عز وجل عن عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:٦٧].
الإسراف: هو تعدي الحدود في النفقة.
لاسيما إذا كان ذلك في معصية الله عز وجل، والقوام: الإنفاق في طاعة الله عز وجل.
ولو أنفق الإنسان كل ماله فالإسراف أن ينفق ولو درهماً أو نصف درهم في معصية الله عز وجل، والقوام: أن ينفق ما ينفقه في طاعة الله سبحانه وتعالى.
إذاً عندنا نفقة في معصية الله عز وجل -سواءٌ أكانت قليلة أم كثيرة- فهي تدخل في باب الإسراف، وفاعلها من الذين لا يحبهم الله عز وجل، وعندنا أمر آخر وهو النفقة فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، فهي طاعة لله عز وجل، ولا تدخل في باب الإسراف أبداً ولو أنفق الإنسان كل ماله، ولذلك جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه بماله كله ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله)، فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بخير، وكعب بن مالك رضي الله عنه حينما أنزل الله توبته في قوله سبحانه: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:١١٨] جاء فقال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي شكراً لله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)، يقول العلماء في هذين الخبرين الصحيحين: أما الأول فإن أبا بكر رضي الله عنه يعرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلد والصبر، فهو يتحمل شظف العيش، ويستطيع أن يتحمل كل شيء في ذات الله عز وجل، فقبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم كل ماله، أما بالنسبة لـ كعب بن مالك فقد عرف منه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يتحمل شظف العيش، فأمره أن يحتفظ بشيء من ماله، ويكفي أن يقدم جزءاً من ماله لله عز وجل شكراً لله سبحانه وتعالى.
أما الدرهم -ولو كان حقيراً تنفقه في معصية الله فإنه محرم، أما الإنفاق في المباحات فإذا وصل إلى درجة المبالغة فيدخل في قول الله تعالى: (يُسْرِفُوا)، أي أن الإسراف هو المبالغة ولو كان في بعض الأمور المباحة؛ لأن الله تعالى قد ذم قوماً فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:٢٠]، فهذه صفة الكافرين يجب على المسلم أن يبتعد عنها حتى لا تكون صفة من صفاته.
إذاً: القوام -وهو قوام الحياة- يكون وسطاً بين الإسراف وبين التقتير، فالإسراف هو المبالغة في البذل، والتقتير هو البخل في البذل، فكما حرم الله عز وجل وذم الإسراف والزيادة في البذل ولو كان ذلك في المباحات فقد ذم الله عز وجل التقتير، والتقتير يشمل أموراً، منها: منع ما أوجب الله عز وجل من النفقات والزكاة والصدقات الواجبة إلى غير ذلك، ومن التقتير: البخل على النفس وعلى الأهل، بحيث يصبح ذلك الإنسان لا يؤدي ما أوجب الله عز وجل عليه تجاه نفسه وتجاه أهله وذويه الذين أمرهم الله عز وجل بالإنفاق عليهم، قال عز وجل: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:٧]، إذاً التقتير محرم وممنوع، كما أن الإسراف أيضاً محرم وممنوع، فلا يجوز للإنسان أن يبخل بما أوجب الله عليه، أما إذا وصل الأمر إلى البخل بالأمور الواجبة العظيمة كالبخل بالزكاة -نعوذ بالله- أو البخل في النفقات الواجبة؛ فإن هذا من أعظم المحرمات عند الله عز وجل، لاسيما إذا كان في الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، قال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:٦ - ٧]، وقاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من منع الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً -أو عناقاً- كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).
إذاً معنى ذلك أن التقتير إذا وصل إلى البخل بما أوجب الله عز وجل فهنا يكون الوعيد الشديد، نسأل الله العافية والسلامة.
فالله تعالى قد توعد الذين يبخلون بالزكاة بأنه يُحمى على هذا المال في نار جهنم، ثم يكوى به الجنب والجبين والظهر، وكلما برد أعيد فأحمى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة -وهو يوم القيامة- حتى يقضى بين العباد، ثم يرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:٣٤ - ٣٥].
فعلى المسلم أن يحسب كل ماله على رأس كل سنة مالية بالنسبة له؛ ليدفع ربع عشر هذا المال بعد أن يحصيه إحصاءً كاملاً، وبعد أن يخصم منه ما عليه من ديون، ثم بعد ذلك عليه أن يؤدي ربع عشر هذا المال، وهذا الذي يقدمه هو الذي يقربه إلى الله عز وجل يوم القيامة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (داووا مرضاكم بالصدقة، وحصنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع).