للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خشية هؤلاء الرجال وخوفهم من يوم القيامة]

هؤلاء الرجال أهل الصلاح والاستقامة، عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وعبدوه حق العبادة، وكان المتوقع لمثل هؤلاء أن يطمئنوا ولا يخافوا؛ لأن الخوف يجب أن يكون من قوم يعيثون في الأرض فساداً، ويدمرون الأفكار والأخلاق، لكن العجب أن هؤلاء الذين هم في طاعة مستمرة لله عز وجل، وقد وصلوا إلى درجة الرجال، وشغلوا حياتهم بتسبيح الله عز وجل، وكانت لهم تجارة؛ وضعوها في أكفهم، وقدموا خشية الله على كل المصالح الدنيوية؛ يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار! ومن هنا على المسلم أن يأخذ درساً من هؤلاء، فمهما بلغ من الصلاح والتقى والإيمان والخشية لله عز وجل وتطبيق أوامر الله، فيجب عليه أن يكون خائفاً دائماً، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إنه لا يأمن غداً إلا من خاف وحذر في هذا اليوم).

وجاء في الأثر: من فعل الذنب وهو يضحك، دخل النار وهو يبكي! المؤمن مهما يقدم من الطاعات والحسنات والخير، فإن عليه أن يكون خائفاً على الدوام، لا لأن الله عز وجل سوف يهضمه شيئاً من عمله، فإن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه:١١٢]، ولكنه يخشى من سوء الخاتمة يخشى ألا يتقبل الله عز وجل منه هذا العمل يخشى الرياء أو السمعة وغيرهما من مفسدات الأعمال يخشى ألا يكون قد أدى كل الواجب الذي أوجبه الله عز وجل عليه؛ لذلك فهو من الذين: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:٣٧].

يوم القيامة يوم عظيم يجعل الولدان شيباً، يقول الله عز وجل عن الصالحين: {يَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:٧]، ويقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:١٠]؛ ولذلك فإن هؤلاء لا يلامون أن يخافوا؛ لأنه يوم تقفز فيه القلوب عن مواطنها من شدة الخوف إلى الحناجر، وهو يوم يرتفع فيه البصر من شدة الذعر والخوف إلى أعلى الرأس، وكأنه قد تحول من مكانه من شدة الخوف! وهذا الشيء نشاهده حينما نخاف من أي أمر من الأمور المخيفة، أما أولئك فإنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، تتقلب فيه القلوب؛ لأن القلوب ترى أشياء لم تكن تراها في الدنيا، وتتيقن منها، والأبصار تشاهد أشياء لم تكن تشاهدها في الدنيا، إنما كانت توصف لها وصفاً.

فالقلوب تتقلب، أي: تؤمن بأشياء ما كانت تؤمن بها من قبل، وهذه قلوب الملاحدة وأهل الشك، وكذلك الأبصار تشاهد أشياء ما كانت تراها في الدنيا، بل كانت تسمع عنها، فانقلب القلب إلى إدراك أشياء ما كان يدركها من قبل، وانقلب البصر إلى رؤية أشياء لم يكن يراها من قبل.

فالخوف صفة من صفات الرجال، وقد ورد وصفهم بالخوف في سورة المؤمنون في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:٦٠]، لما سمعت عائشة رضي الله عنها هذه الآية من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله! (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أهم الذين يسرقون ويزنون ويفعلون الفواحش فيخافون؟ قال: لا، بل هم قوم يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخشون ألا يتقبل الله ذلك منهم).

إذا كان هؤلاء المؤمنون يخافون -وهم في غاية الإيمان والتقى والصلاح والاستقامة- فمن باب أولى أن يخاف أولئك المفسدون في الأرض من أصحاب الجرائم والكفر والإلحاد والطغيان والكبرياء، الذين ساموا المسلمين سوء العذاب، والذين طعنوا في دين الله، وشوهوا دين الإسلام أمام ضعاف الإيمان، وصالوا وجالوا وأفسدوا، وفعلوا ما فعلوا من الفواحش، وتركوا ما تركوا من الواجبات، لكنهم في غمرة الحياة الدنيا، ولذة العيش ومتاع الحياة؛ أصبحوا آمنين مطمئنين، ولكنهم سوف يخافون حينما يأمن الصالحون، وحينما ينجي الله المؤمنين من الفزع الأكبر {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:١٠٣]، يومئذ يخاف أولئك ويطمئن هؤلاء.

هذه هي صفات هؤلاء الرجال: يسبحون، وهم رجال اشتملوا على معنى الرجولة، (ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) وأيضاً: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار).