للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجزاء الأول: الاستخلاف في الأرض]

أما الاستخلاف في الأرض فهو أن تكون السلطة بأيدي هذه الأمة بدلاً من أن تكون السلطة بأيدي الكافرين الذين يسومون المسلمين سوء العذاب، كما يوجد في كثير من البلاد الإسلامية اليوم، يتسلط الكفار على المؤمنين وطغاة البشر على الأتقياء فيسومونهم سوء العذاب، وليس هذا استخلافاً في الأرض، الاستخلاف في الأرض أن تكون الخلافة وأن يكون الأمر والسلطة بيد أهله الشرعيين، لا بيد الأدعياء الذين يأخذون السلطة بطريق القوة، ثم يسومون الناس سوء العذاب، ثم يحولون السجون إلى معتقلات، ويبتزون الأموال ويريقون الدماء ويتلاعبون بمصالح الأمم، هذه نقطة الضعف بالنسبة لهذه الأمة.

وهذا الاستخلاف لم يكن للأمة الإسلامية في صدرها الأول كما كان الحال في الحياة المكية التي عاشها المسلمون، لقد كان الأذى يصب على رءوس المؤمنين صباً؛ لأن المسلمين في تلك الفترة في مكة كانوا مستضعفين في الأرض.

فكان بلال رضي الله عنه يؤتى به في شدة الظهيرة وحرارة الشمس فيبطح على الأرض، وتوضع على جسده الحجارة الحارة من أجل أن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أحد أحد).

وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه وأمه وأبوه وأهله كلهم يعذبون بصنوف العذاب، حتى مات ياسر تحت العذاب ثم تبعته زوجته سمية، وذلك عندما قتلها أبو جهل لعنه الله، ويمر بهم محمد صلى الله عليه وسلم ولا يملك لهم من الأمر شيئاً إلا أن يقول: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة).

وكان صهيب الرومي رضي الله عنه ذا مالٍ في مكة، فلما كان في طريق هجرته تبعه المشركون وقالوا: والله -يا صهيب - لا ندعك تهاجر وقد جئتنا فقيراً لا مال لك ثم ها أنت الآن تهاجر.

فقال لهم: أرأيتم إن دللتكم على مالي أتتركوني؟ قالوا: نعم.

فدلهم عليها ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصل إلى المدينة حتى يجد قرآناً يتلى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:٢٠٧].

إن الحياة في مكة اشتدت على المسلمين، حتى أنزل الله عز وجل وصفاً دقيقاً لتلك الحياة: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢].

وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:٢١٤] ثم يأتي النصر: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤]، تلك الحياة التي صورها لنا خباب بن الأرت رضي الله عنه حين يقول: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقعد الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً وقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم، فيحفر له في الأرض، ويوضع المنشار في مفرق رأسه، ويقسم قسمين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصده ذلك عن دين الله، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، ولقد سار المسلمون على المنهج الصحيح، ولم تمض إلا مدة وجيزة من الزمن حتى تم الاستخلاف في الأرض للمؤمنين، فكانت دولة الإسلام التي أرسى قواعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، ثم لم تمض مدة من الزمن إلا وقد رفرف علم الإسلام على أكثر المعمورة، من الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً.

كان المسلم لا يجد وهو يسير في أكثر من نصف الكرة الأرضية دائرة جوازات ولا جمارك ولا أحوالاً مدنية ولا من يقول له: من أنت.

ولو قيل له: من أنت لقال: أنا المؤمن الذي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

هذه الدولة التي انقسمت الآن إلى عشرات الدول أو الدويلات التي تعيش مستضعفة تحت مطارق الكافرين، تلك الدولة التي يقول عنها المؤرخون: كان هارون الرشيد ذات يوم جالساً في بغداد، فمرت سحابة من فوق رأسه فصار يخاطب السحابة ويقول لها: يا سحابة! أمطري أنى شئت فسيأتيني خراجك ولو بعد حين.

لقد كانت الدولة الإسلامية تسابق الشمس على مطالعها.

إن العز والاستخلاف تجده في قصة قتيبة بن مسلم حينما كان في بلاد ما وراء النهر يفتح وينشر الإسلام، فيسأل قادته ذات يوم قائلاً: يا قومي! أي بلاد تقع أمامنا؟ قالوا: بلاد الصين.

قال: والله لا أرجع إلى وطني حتى أطأ بأقدامي هذه تراب الصين -ويشير إلى أقدامه- وأضع وسم المسلمين على الصينيين، وأفرض الجزية عليهم.

ووصلت الأخبار والتجسسات إلى ملك الصين تخبره بقسم قتيبة، فهل تظن أن ملك الصين سوف يرسل له إخطاراً تهديداً؟ لا، هو قتيبة بن مسلم الذي جاء ينشر الإسلام، فيرسل إليه ملك الصين صحافاً من ذهب مملؤة بالتربة من أرض الصين، ويقول: هذه التربة ليطأها قتيبة وهو في مكانه ويبر بقسمه، وهؤلاء أولادي الأربعة يضع عليهم الوسم، وهذه الجزية سوف تصله كل عام.

أما عقبة بن نافع رحمة الله عليه فكان يسير في بلاد شمال أفريقيا، يقول المؤرخون: مر في طريقه في تونس وكلفه الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن يبني مدينة تكون مركزاً للمسلمين وهي ما تسمى في الوقت الحاضر في تونس (مدينة القيروان) فقرر أن يبني المدينة لتكون مركزاً للمسلمين في تلك البلاد، فجاءه أهل البلاد وقالوا: أيها القائد! هذه أرض موحشة مسبعة يرجع كل الفاتحين دونها، ابحث عن مكان مناسب.

قال: والله لا أبنيها إلا في هذا المكان.

يقولون: فوقف عقبة بن نافع رحمة الله عليه على حافة الغابة وقال: أيتها الوحوش! نحن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جئنا هنا لننشر الإسلام.

يقول شاهد عيان: والله لقد رأينا الوحوش تحمل أولادها من الغابة لتخليها لـ عقبة بن نافع ليقيم عليها مدينة القيروان.

ثم يسير عقبة بن نافع ليصل إلى المحيط الأطلسي فيغرز قوائم فرسه في ماء المحيط ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء أحداً لخضته على فرسي هذه إليه.

هذه عزة المؤمنين التي يقول الله عز وجل عنها: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:٨].

ويفقدها كثير من الناس اليوم؛ لأنهم لم يأخذوا بكثير من أسبابها، فتتمزق الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة لا تخفى علينا أخبارها، ويسام المسلمون سوء العذاب، وتضيع الأندلس، وتضيع فلسطين، وتضيع لبنان، وتضيع مواطن كثيرة.

إذاً الاستخلاف في الأرض مرهون باتباع أمر الله عز وجل، لكني واثق -بإذن الله عز وجل- أن هذه الصحوة الإسلامية المباركة هي التي سوف تعيد هذا الاستخلاف في الأرض مرة أخرى، قال عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١].