للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[الغربة الأولى]

أما الحديث عن الغربة الأولى فهو حديث يتكرر في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كتب السيرة، فحينما نقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، والسلف الصالح المهديين؛ نجد غربة الإسلام واضحة، خصوصاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أول خلافة الخلفاء الراشدين، هذه الغربة نجدها ماثلة منذ أن قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس بدعوة الإسلام سراً، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل من المسلمين الأوائل، حتى إذا أعلن دعوة الإسلام بعد نزول قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:٩٤] حينها صعد على الصفا ونادى بطون قريش: يا بني فلان! ويا بني فلان! ويا بني فلان! حتى إذا اجتمعوا حوله قال لهم: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن عيراً من وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما عهدنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).

ومنذ تلك اللحظة قامت المعركة بين الإسلام وبين الجاهلية، المسلمون يريدون أن يجهروا بكلمة التوحيد؛ امتثالاً لأمر الله عز وجل، واتباعاً لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، والكفر قد ألف عبادة الأوثان والأصنام، فقامت المعركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جانب، وبين الكفر بجميع ملله وأشكاله من جانب آخر، ولقد أوذي المسلمون في تلك الفترة أذىً شديداً، عبر عنها القرآن العظيم في مواقع كثيرة من كتاب الله، تجد ذلك في قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤]، ففي تلك المرحلة يستبطئ الرسول والمؤمنون معه النصر ويستعجلون النصر؛ لأن الأمر قد وصل بهم إلى درجة لا تطاق.

وعبر عنها القرآن في موضع آخر بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢].

وفي موضع ثالث: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:١٦].

وفي موضع رابع: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:١١٠].

وفي موضع خامس يقول الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:١ - ٣]، إلى آخر الآيات التي نزلت في مناسبة واحدة.

وعلى كل فقد صور القرآن لنا المستوى الذي وصل إليه المؤمنون في تلك الفترة التي جهر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته، وهذه الصور تتكرر مع كل رسول مع أمته حينما يجهر بدعوته.

وهذه الغربة تطورت حتى صورها لنا حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه حيث قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة ما كنا نجده من أعدائنا -يعني: في مكة- فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع المنشار على مفرق رأسه إلى قدميه -يعني: يقسم قسمين- ولقد كان يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم قوم تستعجلون، ووالله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه).

ويتحقق هذا الوعد في تلك الفترة العصيبة الحالكة من تاريخ الإسلام، ولقد وعد صلى الله عليه وسلم أن ينطلق الإنسان في الجزيرة العربية لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولقد كان الصحابة يصدقون وعد الله ووعد رسوله، فكانوا ينتظرون هذا الوعد وهم في أشد ظروف الحياة.