معشر المسلمين! وهناك في تلك المواقف في بطحاء مكة، وحول جبل النور وغار حراء وغار ثور، يتذكر الإنسان المسلم تلك المعالم التي وقفها رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم أعلن دعوة الإسلام وحيداً، قد جفاه الأهل والعشيرة، وحينئذٍ يتذكر الجهاد في سبيل الله، وتلك الحجارة تنطق بكفاح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيها قطرات من دمه الشريف يوم آذاه وضربه قومه، وأخرجوه بغير حق إلا أن يقول ربي الله.
معشر المسلمين! وفي الحج نتعلم الخضوع الكامل لله عز وجل، يوم ندور حول هذا البيت خاضعين أذلاء، تأخذنا السكينة والخشوع لله عز وجل، ثم نمد أيدينا لنستلم الحجر الأسود، ونحن في الحقيقة نمدها لنبرم عهداً وتوبة بيننا وبين الله عز وجل، في ذلكم الموقف الرهيب الذي وقف فيه صلى الله عليه وسلم وبكى، ثم التفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي بجواره، فيقول له:(يا عمر! هاهنا تسكب العبرات).
وإذا كان العالم يعيش اليوم في ذعر وخوف وقلق؛ لأنه تجرد عن العقيدة الصحيحة؛ فإنه يذهب هناك ليذوق طعم الأمن؛ لأن الله يقول عن ذلكم البيت:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}[القصص:٥٧].
ذلكم المكان الذي يعلمنا كيف نجاهد في الله عز وجل حق جهاده، وحينما ننطلق بين منى وعرفات والمزدلفة إذا بنا نتعلم الطاعة المطلقة لله عز وجل؛ فإن الحجاج هناك لا يكادون ينزلون منزلاً إلا ويفارقونه بعد مدة وجيزة، دون أن يعرفوا الدوافع من أجل هذا النزول أو ذاك الرحيل، ولكنها طاعة لله واتباع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الطاعة المطلقة التي لا تفكر في الحكمة ولا في الهدف، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب:٣٦].
هناك في ذلك الصعيد يلتقي المسلمون بإخوتهم من جميع بقاع العالم؛ ليحلوا مشاكلهم؛ وليرى بعضهم بعضاً عن كثب.
هناك تعالج مشاكل المسلمين، وليس ذلك بدعاً في تاريخ الحج، فإن أول لبنة لدولة الإسلام في المدينة قد وضعت في أيام الحج بجوار جمرة العقبة.
أيها الإخوة المؤمنون! وإذا كانت هذه القوميات المعاصرة تتصارع اليوم على القضاء على الإسلام؛ فإن في الحج لنا خلاصاً، وإن في الحج لنا منعة، إن هذه القوميات لا تستطيع أن تلتهم المسلمين، ولا أن تحطم هذا الدين؛ لأن هذه الشرائع تتكرر من حين لآخر؛ من أجل أن تؤلف بين المسلمين وتربط بعضهم ببعض.
هناك الصلوات الخمس التي يكسوها اجتماع أكبر منها يوم الجمعة؛ ليكون هناك اجتماع ثالث أكبر وأوسع في أيام العيدين، ولكن هذه الاجتماعات المصغرة لا بد أن تتحد كلها وبأجمعها في اجتماع يلم كل هذه الاجتماعات، ومن أجل ذلك شرع الله عز وجل الحج، وكانت شريعة الحج آخر شرائع الإسلام.