من هنا كان الإيمان بالحياة الآخرة صفة من صفات المؤمنين فقط، ولا يوفق لها إلا هم، ولذلك اعتبرها الله تعالى من الحياة الطيبة، أما حياة أولئك فإنها حياة بهيمية، فالحياة الطيبة هي التي تقضى بالإيمان بالحياة الآخرة، وبحياة البرزخ والبعث بعد الموت، ولذلك يقول الله عز وجل عن هذه الحياة الطيبة:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}[النحل:٩٧].
إن العالم الذي يعيش الآن في أمريكا وبلاد الغرب والشرق قد وصلوا إلى غاية الترف المادي، لكنهم ما وفقوا للحياة الطيبة؛ لأن الحياة الطيبة لا تكون في متاع الأجساد وإنما تكون في متاع الأرواح، ولذلك فالمؤمن مهما عاش في شظف من العيش، ولو كان في غياهب السجون، وتحت مطارق الأعداء يسام سوء العذاب، فإنه يعيش في ظل هذه الحياة الطيبة التي يقول الله عز وجل عنها:(فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)؛ لأن الحياة الطيبة معناها: الإيمان، وتصور الحكمة من هذا الوجود، وإدراك أسرار هذا الكون، وإدراك النهاية، والإيمان بتلك النهاية التي تنتظر منذ البداية.
يقول الله عز وجل أيضاً عن ذلك:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا}[هود:٣]، أي: بالحياة الطيبة في ظل الإيمان، {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}[هود:٣]، أي: في الحياة الآخرة.
فلا نتعجب إذا سمعنا أخبار هذا العالم المتحضر حضارة مادية، ولكنه خال من كل الروحانيات، لا نتعجب إذا سمعنا أخباره عن الانتحار، وتأتينا إحصائيات الانتحار: بأنه في كل كذا من الدقائق تكون عملية انتحار، وفي كل فترة من الزمن تكون عملية قتل، لماذا؟ لأنهم فقدوا هذه الحياة الطيبة، ويعيشون في قلق وهم وغم، ولكن المؤمن -والحمد لله- مهما يلاقي في هذه الحياة؛ فإنه ينتظر حياة أفضل من هذه الحياة، بل يعتبر ما يصيبه من نصب وهم ومصائب في هذه الحياة الدنيا غنيمة يكسب بها أجراً عند الله سبحانه وتعالى في الحياة الآخرة، ولا يعيب نفسه، ولا يؤنب ضميره حينما يصيبه قدر من أقدار الله؛ لأنه يؤمن بالقدر، أما ذلك فإنه يندب حظه، ويندب نفسه: كيف فعلت كذا ولم أفعل كذا؟ لأنه لا يؤمن بالقضاء والقدر.
وهكذا نعرف الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، ومن هنا يقول أحد الصالحين: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه من لذة الإيمان لجالدونا عليها بالسيوف.
ويقول ابن القيم رحمة الله عليه: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
ويقصد بجنة الدنيا لذة الإيمان، ولذة انتظار الحياة الآخرة، ولذة مناجاة الله عز وجل والوقوف بين يديه، وانتظار وعده، هكذا تكون جنة الدنيا، أما جنة الآخرة فإنها جزاء لتلك الجنة.
إذاً: الحديث عن حياة البرزخ والآخرة حديث طويل جداً في القرآن.