[الابتعاد عن الزنا ووسائله]
ثم قال تعالى: {وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:٦٨]: والزنا هو الوطء في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما فتح طريق الحلال أمام هذا الإنسان فأعطاه أربع نسوة يتمتع بهن ويتمتعن به ووسع الله عز وجل له في هذا الأمر جعل عقوبة الزنا شديدة في الدنيا والآخرة، فالله تعالى يقول عن عقوبة الدنيا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة} [النور:٢]، وفي الآية المنسوخة تلاوة ذكر في عقوبة المحصن الرجم، أما بالنسبة لعقوبة الآخرة فقال سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٦٨ - ٧٠]، فباب التوبة مفتوح، ولكن هذه الذنوب العظيمة التي أعظمها الشرك بالله وقتل النفس والزنا على المسلم أن يبتعد عنها، وأن يبادر بالتوبة إذا اُبتلي بشيء من ذلك.
وقد نزلت هذه الآية في قوم من المشركين عبدوا غير الله عز وجل، وأكثروا من القتل والزنا، فجاءوا تائبين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٦٨ - ٧٠]، ففتح الله عز وجل باب التوبة أمام هذا الإنسان حتى لا يقنط من روح الله سبحانه وتعالى، وهذه الجرائم العظيمة نستطيع أن نقول: إنها بدأت تنتشر في أيامنا الحاضرة في المجتمعات البشرية، وهذا الزنا -نسأل الله العافية والسلامة- من أخطر الأمور التي تفسد المجتمعات؛ حيث تختلط به الأنساب، ولا يعرف الرجل أبناءه، والأبناء لا يعرفون أباهم، فتفسد البيوت، كما أنه يؤدي إلى الطلاق ويؤدي إلى الريب، ويؤدي إلى المصائب، وبه تنتشر الأمراض في المجتمع، فكم نسمع عن الأمراض الحديثة التي جاءت مع هذه الفواحش -نسأل الله العافية والسلامة- ومع الزنا من الإيدز والهربس والسيلان والزهري وغير ذلك من الأمراض التي ما كان الإنسان يعرفها إلا بعد أن انتشرت هذه الجريمة، نسأل الله العافية والسلامة.
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة -أي: فاحشة الزنا- في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، وبالرغم مما يقدمه الطب الحديث من وقاية وعلاج وعقاقير وغير ذلك فما زالت هذه الأمراض تنتشر في المجتمعات، سواء ما كان نتيجة حتمية لهذه الفاحشة العظيمة أو ما كان عقوبة من الله عز وجل من الأمراض الأخرى التي ما كان الإنسان يعرفها، وتُسمى بأمراض الحضارة، وهي في الحقيقة ليست أمراض الحضارة، وإنما هي أمراض الفواحش والمحرمات.
فالزنا أمر خطير، ولا شك أن كلمة (زنا) منذ أن يسمعها الإنسان تصك أذنه فلا يفكر الإنسان فيها إلا من بعيد إذا لم يكن قد اُبتلي بهذه الفاحشة، نسأل الله العافية والسلامة، لكني أرى أن كثيراً من الذين تشمئز قلوبهم من هذه الكلمة فضلاً عن وجودها فيما بينهم -نسأل الله لنا ولهم الثبات- لا يبالون بوسائلها، وصحيح أن الزنا قد بذلت له في أيامنا الحاضرة كل الوسائل، ولم تبق وسيلة مقفلة أمام المجتمعات الإنسانية تدعو إلى الزنا إلا وقد انفتحت على مصراعين اثنين على مستوىً واحد، ولذلك لا يمكن أن تسأل عن وسيلة من هذه الوسائل إلا وتجدها قد انتشرت في المجتمع، إلا من حفظ الله عز وجل، فمثلاً: النظر الحرام فُتح له باب التبرج، وهذا التبرج الفظيع انتشر في أسواق المسلمين وفي كل حالاتهم، بل انتشر العراء والاختلاط الشديد، فنساء يأتين من وراء آلاف الأميال خادمات ومربيات وهن في سن الفتيات وذوات جمال، ويعشن داخل البيوت سنين طويلة بين العزاب وبين الرجل وزوجته، وربما تخرج زوجته ساعات أو تسافر أياماً ليبقى مع هذه الخادمة أو هذه المربية! وهكذا سائقون جيء بهم إلى قعر بيوت المسلمين، فأحدهم يحمل مفتاح البيت بجيبه، ويدخل متى شاء، ويخرج متى شاء، ويحمل الزوجة، ويحمل البنات إلى المدرسة وإلى الأسواق، وكأنه هو رب البيت! وهكذا تُوجد أفلام ومحرمات تتكرر في كل ليلة وفي كل ساعة على مشهد من الأطفال والنساء والآباء والأبناء.
إنها أمور خطيرة والله لا تتحملها حتى النفوس التقية فكيف بالنفوس المريضة؟! وكيف بالذين في قلوبهم مرض؟! لقد كنا نظن أن في جاهلية اليوم خيراً فإذا بنا نرى في جاهلية الأمس التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من إذا ركب على ظهر الفلك دعا الله مخلصاً له الدين، وإذا كان على ظهر الماء يخاف حينما تهب ريح شديدة أن تنقلب السفينة فيغرق، فيدعو الله ويوحد الله، أما اليوم فتشاهد أن من وراء عشرات آلاف الأقدام بين السماء والأرض في الطيران من يستمر ساعات طوال وهو مع النساء والتبرج والعراء والأفلام والمصائب ولا يخاف ولا يتأثر، وهذا مما يندى له جبين المسلم.
فالقلوب تشمئز حين تسمع كلمة (زنا)، لكن مَنْ مِنَ الناس قد استطاع أن يحصن نفسه أو مجتمعه؟ لا يوجد إلا من شاء الله، فالمجتمعات الإنسانية بصفة عامة والمجتمعات الإسلامية بصفة خاصة -حتى المجتمعات المحافظة- انتشر فيها هذا التبرج وهذه المحرمات والصور والأفلام! ولو عملنا إحصائية عن عدد ما في بيوت المسلمين اليوم من أفلام لما استطعنا إلا أن نخرج نسبة ضئيلة جداً تخلو من هذه الأشياء، أما البقية فقد غصت بهذه الأفلام، سواء ما يأتي عن طريق التلفاز أو الفيديو أو السينما أو الصور الثابتة والمجلات الفاتنة.
إذاً المصيبة كبيرة، وبالرغم من أن الناس يشمئزون من كلمة (الزنا) إلا أن القليل منهم هو الذي يتخذ الحيطة لنفسه ولأهله من هذا الأمر، ولذلك لا تستغرب حينما أقرن بين الزنا وبين هذه الأمور؛ فإن الله تعالى قرن بينها في سورة النور، فلما ذكر الله عز وجل الزنا ذكر الأمور التي تؤدي إلى الزنا فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:٣٠]، وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:٣١]، وقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:٢٧]، إلى غير ذلك من الاحتياطات.
إذاًَ: هذه الاحتياطات يُطالب بها الناس اليوم ودائماً وأبداً حتى يقضوا على فاحشة الزنا، فما هي النتيجة حينما انفتح الباب على مصراعيه في بلاد المسلمين؟ هل تتصور أن نسبة كبيرة من شباب المسلمين يقضون أي إجازة ولو كانت قليلة في بلاد الغرب؟! بل سمعت أن بعضهم يقضي إجازة الأسبوع في بلاد الغرب أو في بلاد الفسق والمعاصي! هذا هو الذي يحدث، فما الذي دفع بهؤلاء إلى ذلك؟ حتى لقد رأينا كثيراً من شباب الأمة الإسلامية المحافظة ومن أبناء الصالحين من يستغلون الفرص، وكأن أحدهم يعيش كطير في قفص يريد أن يبحث عن فرصة ليفر من هذا المجتمع المحافظ؛ لأنه رأى ما يثير الشهوة ويحرك الغرائز في مجتمعه وداخل بيته، فهو لذلك يبحث عن الجريمة.
إذاً من هو الذي يُسأل عن هذا الإنسان يوم القيامة؟ يُسأل عن هذا الإنسان يوم القيامة كل من ساهم في تحريك هذه الغريزة فحركها تحريكاً منحرفاً، كالإعلام الذي يوصل هذه الأشياء إلى بيوت المسلمين، فيوصل الصحف والمجلات والأفلام والمسلسلات والأغاني وصور النساء، والآباء الذين يأتون بهذه الأشياء، وكل من ساهم في هذا الأمر لابد أن يتحمل نصيباً من المسئولية بين يدي الله عز وجل.
ووالله! إن من يسافر إلى بلاد منفلتة لا تنضبط بأخلاق ولا بدين ولا بقيم ويرى أبناء المسلمين وأبناء المحافظين يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه هي النكبة، وهذه هي المصيبة.
فعلينا أن نحافظ على هذه الناشئة، وأن نطهر بيوتنا مما حرم الله عز وجل، فما يوجد في بيوت المسلمين وفي بلاد المسلمين من هذه الأشياء هو أكبر دافع لوجود هذه الفاحشة في بلاد المسلمين وخارج بلاد المسلمين.
فالله تعالى يقول: {وَلا يَزْنُونَ}، ثم لما ذكر الله عز وجل هذه الصفات الثلاث وهي أخطر الصفات -الشرك بالله وقتل النفس والزنا- قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان:٦٨ - ٦٩]، فـ (أثاماً) أي: عقاباً، وكيف يضاعف له العذاب يوم القيامة؟
الجواب
يزاد ويكرر فيعطى من العقوبة أكثر مما يعطاه إنسان آخر، {وَيَخْلُدْ فِيهِ} [الفرقان:٦٩] أي: في العذاب {مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٦٩ - ٧٠]، ومن نعمة الله عز وجل أن باب التوبة ما زال مفتوحاً، وسيبقى باب التوبة مفتوحاً حتى تطلع الشمس من مغربها، وحتى تبلغ الروح الحلقوم، ولكن -يا أخي- هل تدري متى تبلغ الروح الحلقوم؟! أو متى تطلع الشمس من مغربها؟! أنا وأنت لا ندري، والعلم بيد الله عز وجل، فما على أي واحد منا إلا أن يبادر بالتوبة.
ثم قال عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:٧١]، وهذا دليل على أن التوبة إنما كررت هنا لأنها يجب أن تكون توبة صادقة، أما التوبة التي يتوب فيها الإنسان اليوم ليلعب بها غداً ولينقضها ويتوب بعد غد فهذه ليست توبة صادقة، فالتوبة الصادقة هي التي تستوفي الشروط المعروفة: الإقلاع عن الذنب، والندم، والعزم على أن لا يعود، ورد المظالم إذا كانت هناك مظالم بينه وبين خلق الله عز وجل.