[الصبر والثبات عند الفتن يوصل المسلم إلى أعلى درجات الجنة]
العنصر الثاني الذي يكفل للمسلم أعلى درجات الجنة: فهو الصبر على الأذى، والابتلاء في دين الله عز وجل، وهذه درجة عالية وهي درجة المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فقد أوذوا في سبيل الله، ثم بعد ذلك صبروا، ثم كانوا في أعلى درجات الجنة.
ويلحق بهؤلاء الأنبياء في الدرجة الثانية المصلحون، الذين قدموا أنفسهم لهذا الدين، وصبروا على هذا الأذى، وتفانوا في الدفاع عن دين الله عز وجل، وقدموا على الله عز وجل غير مغيرين ولا مبدلين، ولا مستكينين لغير الله عز وجل.
الدرجة الثالثة العليا: الذين يثبت إيمانهم عند الفتن، وهذه المرحلة لا يطيقها إلا القلة من الناس؛ لأن هناك من الناس {مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ}[الحج:١١] إذا رأى أن الناس معه، وأن الخير معه، وأنه لا يؤذى في ذات الله؛ فإنه يثبت على هذا الطريق؛ لأنها أصبحت طريقاً سهلة ممهدة، لكن حينما يصيبه الأذى في دينه يرجع على عقبيه، وينكص ويعود من منتصف الطريق، {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ}[الحج:١١].
هذه الفتن جعلها الله عز وجل في طريق الجنة لتمحص المؤمنين، ولتيمز الصادقين من غير الصادقين؛ ولذلك يقول الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}[العنكبوت:١٠]، إذا أصابه أذى في دينه قال: لقد هربت من الأذى فكيف أقع في الأذى؟! لقد هربت من عقوبة الآخرة والآن أقع في عقوبة الدنيا! إذاً: أتحمل العقوبة المتوقعة وأسلم من عقوبة حاضرة، هكذا يتفلسف ويظن أن العقوبتين متساويتان! والحقيقة أن هناك الفرق الكبير الشاسع بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة.
قال تعالى:{وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ}[العنكبوت:١٠]، هؤلاء الذين يرجعون من منتصف الطريق هم الذين لا يصلحون الحياة، لا سيما الحياة الحاضرة؛ بل إن الحياة كلها جعل الله عز وجل هؤلاء الناس بعضهم لبعض فتنة فقال:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}[الفرقان:٢٠] أي: أتتحملون هذه الفتنة؟ ومن أجل ذلك فإن الذين يثبتون على هذا الطريق، ولا يتراجعون حينما تصيبهم فتنة هم الذين يستحقون الدرجات العلى في الجنة، وهم الذين قال الله عز وجل فيهم:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ}[آل عمران:١٧٩]، وهذه الآية نزلت في آخر سورة آل عمران من أجل أن تبين أن ما حدث في غزوة أحد -التي تكلمت عليها سورة آل عمران- من أذى أصاب المسلمين، فقتل منهم سبعون، وجرح خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم، أن هذا له فائدة، حتى المصائب لها فائدة، ما هي الفائدة؟ قال تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}[آل عمران:١٧٩].
إذاً: معنى ذلك: أن الأحداث والمصائب والفتن التي تحل بأمة من الأمم لمصلحة هذه الأمة، من أجل أن يخرج ذلك الداعية ممحصاً، ومن أجل أن يخرج ذلك المؤمن قوي الشكيمة، شديد العزيمة، مؤمناً حقاً، يستطيع أن يتحمل أعباء الحياة وتكاليفها، لكن حينما تكون الحياة كلها رخاء وسهولة، ورقة وليناً ودعة، فباستطاعة كل الناس أن يقولوا: إنهم مؤمنون، ولذلك يقول الله تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:٢]، و (حسب) هنا استفهام إنكاري، أي: من ظن أنه إذا قال: آمنت ولا يفتن فعليه أن يراجع حسابه، فالاستفهام إنكاري معناه: أنه ليس من المعقول وليس حقيقة أن يترك الناس على كلمة (مؤمن) دون أن يفتنوا، والفتنة معناها في اللغة: وضع الذهب في النار حتى تظهر الجودة من الرداءة, وحينما يوضع الذهب في النار يتميز الذهب من الأخلاط الرديئة ويبقى الذهب، وتزول هذه الأخلاط الرديئة، هذه هي الفتنة في اللغة العربية، والفتنة في مفهوم الشرع الإسلامي: هي ما يصيب الإنسان من آفات وأحداث من أجل أن يتميز المؤمن الصادق من غير الصادق.