[الابتعاد عن شهادة الزور وأماكن المعاصي]
ثم قال تعالى في ذكر صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:٧٢].
والزور هو: كل محرم، مأخوذ من التزوير أو من الازورار، والازورار معناه الانحراف، والتزوير معناه: التزيين.
لأن أصحاب القول الحرام يزينون كلامهم ليكون مقبولاً في المجتمع، كما تشاهد في واقعنا اليوم، فعباد الرحمن لا يشهدون الزور، وهذه الآية تحتمل معنيين، ولربما كان المعنيان مرادين، فتشمل شهادة الزور، وتشمل حضور المجالس التي فيها ما حرم الله عز وجل.
أما شهادة الزور فإنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ويدل على ذلك حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (ألا أنبئكم بأكبر ما أكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين.
وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور.
فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)، أي: لما ظهر من علامات الغضب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فشهادة الزور معناها الذي تعرفه، وهو أن يأتي إنسان ليشهد على إنسان بأن هذا المال لفلان.
وليس لفلان أو بأن هذا المال ليس لفلان وهو لفلان.
فهذه هي شهادة الزور عياذاً بالله، وهي ظلم عظيم تؤدي إلى أن تنتقل الأموال إلى غير أهلها بسبب هذه الشهادة الحرام الكاذبة، فشهود الزور هم الذين يذهبون إلى المحاكم وأمام القضاء وفي غير هذه الأمور ولا يدلون بالشهادة على حقيقتها، بل يقلبونها ضد صاحبها، نسأل الله العافية والسلامة، وهؤلاء يقترفون أكبر الكبائر، فعليهم أن يبادروا بالتوبة، فالله تعالى يقول: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:٧٢].
وكذلك لا يشهدون المجالس التي فيها الكلام المحرم، فكم من مجالس المسلمين اليوم يوجد فيها من الغيبة والنميمة والكذب والبهتان، بل والطعن في الدين -نعوذ بالله-، والضحك والسخرية بأبناء المسلمين وبالصالحين يوجد فيها من ذلك الشيء الكثير! وهذا يكثر، وتجد كثيراً من هذه المجالس تُعمر بهذه الأمور، ويسخرون من المؤمنين ويضحكون، وهذا من أعظم الزور، وكم يوجد من المجالس التي تُعمر بالموسيقى واللهو والغناء! ولذلك جاء أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مر ذات يوم بقوم يغنون، فلما استمع الغناء أسرع وهرب، فذُكر خبره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن ابن أم عبد كريم)، وفي هذا إشارة إلى قول الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:٧٢]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:٧٢]، فالزور هو كل كلام محرم، فإذا رأيت -يا أخي- من يتكلم كلاماً محرماً ومن يخوض في آيات الله فعليك أن تعظه وتذكره وتخوفه بالله عز وجل، فإن التزم وإلا فعليك أن تبتعد عنه كثيراً؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:٦٨]، وعلى هذا نقول: إن قوله تعالى: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:٧٢] يشمل الأمرين جميعاً، فاحذر أي كلام محرم وأي شهادة محرمة ليست على حقيقتها، ولا تشهد إلا على مثل الشمس، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (على مثلها فاشهد أو دع)، أما الذين يشهدون الزور وينقلون الأموال من إنسان إلى إنسان بشهاداتهم فهؤلاء قد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً.
وأعظم من هؤلاء -والعياذ بالله- الذين يأخذون أموال الناس بالأيمان الكاذبة، فيحلف أحدهم على الحرام بأن هذا له وليس له، أو أن هذا لفلان وليس لفلان، وهذه هي اليمين الغموس التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) ونعوذ بالله من ذلك، فالذي يحلف على ما ليس له ويقول: والله إن هذا لي.
أو: والله إن عندك لي كذا.
أو: والله إنه ليس عندي لك شيء، وهو عنده ويعلم ذلك فهذه هي اليمين الغموس، وسُميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار، وسُميت اليمين الصبر لأن صاحبها إذا أراد أن يحلف تجده يتردد ولو كان ضعيف الإيمان، بل لو فقد الإيمان وكان يريد أن يحلف فإنك تجده يتنازع الإيمان والمطامع أمام نفسه، فيقدم على هذه اليمين الكاذبة من أجل أن يأكل فيها أموال الناس، والعياذ بالله.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:٧٢] أي: إذا رأوا كلاماً حراماً غيبة أو نميمة أو كذباً أو مجالس سفهاء يضحكون ويسخرون من دين الله ومن المؤمنين فإنهم يهربون من هذه المجالس، ولا يجلسون فيها، لكن بعد أن يدافعوا عن أعراض إخوانهم المسلمين، فإن استطاعوا وإلا فعليهم أن يهربوا من هذه المجالس؛ حتى لا تنزل عليهم عقوبة الله عز وجل مع هؤلاء.