قال تعالى:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:٥]، فكما أنه قد خص بالعبودية عز وجل فإنه خص أيضاً بالاستعانة، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نستعين إلا بك، ونقول فيها من الناحية اللغوية كما قلنا في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ): قدم مفعول (نستعين) وهو (إياك)، والفاعل مستتر، وتقديم ما حقه التأخير يدل على نفس المعنى السابق في (إياك نعبد)، أي: لا نستعين بأحد سواك، وعلى هذا فإن الاستعانة تعتبر جزءاً كبيراً عظيماً حساساً من أجزاء العبودية لله عز وجل، أي: فلا نصرف نوعاً من العبادة؛ لأن الاستعانة بغير الله عز وجل أو بمخلوق من المخلوقين في أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل أمر لا يجوز، وهو أيضاً يخل بجانب التوحيد، بل يقضي على التوحيد.
وعلى هذا نقول: الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه وهو حي فلا بأس أن تستعين به وتقول: يا أخي! ساعدني في كذا، أما إذا كان ميتاً فلا تجوز الاستعانة به بأي حال من الأحوال؛ لأن الميت هو بحاجة إلى الحي، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لا نستعين به بعد موته، وإذا ذهبنا إلى قبره عليه الصلاة والسلام فإننا نسلم عليه بعد أن نزور مسجده، فنقف عند قبره نسلم عليه ولا نستعين به، وإنما نصلي ونسلم ونثني عليه بما هو أهله عليه الصلاة والسلام، ونسأل الله عز وجل شفاعته في الآخرة، لكن لا نسأله شيئاً، وهو أقدر الخلق في حياته عليه الصلاة والسلام على كل شيء، وقد هدانا الله تعالى بسببه، لكنه بعد موته لا يستطيع أن يقدم لنا أي خدمة أو أي معونة مادية، إلا أن نتبع سنته ونموت على ملته، ونسأل الله عز وجل الثبات على ملته.
هذا هو الأمر الذي نستفيده منه، بل هو صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى أن نصلي عليه، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم معناها الدعاء، إذاً: هو بحاجة إلى دعائنا عليه الصلاة والسلام بعد موته، ونحن بحاجة إلى الله عز وجل مباشرة بحيث لا نستعين إلا بالله عز وجل، فكيف إذاً بمن يستعين بالأموات الذين أصبحوا رفاة ويذهبون إليهم ويقولون: يا فلان! أعطني كذا؟! تذهب المرأة التي لا تحمل -نعوذ بالله- فتجلس عند صاحب الضريح، سواء كان تقياً أو براً أو فاجراً وتقول: أنا لا أحمل! تسأله وكأنه أصبح إلهاً مع الله عز وجل، وهو لا يملك لها ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً؛ بل إن الأموات ونحن نمر بقبورهم نسلم عليهم وندعو لهم، فكيف يدعو هذا الإنسان المصاب ويذهب إلى ميت؟! ألا يفر إلى الله عز وجل؟! فيذهب هذا المريض إلى صاحب هذا القبر ويقول: أعطني الصحة والعافية! عياذاً بالله! وهذا هو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الأعراف:١٩٤]، وعلى هذا فإن كل ميت لا يمكن أن يساعد حياً، وكل حي قد يستطيع أن يساعد، لكن فيما لا يقدر عليه لا يجوز أن نسأله، كأمور الآخرة، أو مغفرة الذنوب وما أشبه ذلك، ولو كان حياً، أما الميت فإنه لا يجوز أن نعطيه شيئاً من الدعاء، أو نسأله حاجة من الحاجات؛ لأنه أصبح تراباً، وهو أيضاً رهين في قبره بما قدمه في حياته الدنيا، فقد يكون من أهل السعادة، وقد يكون من أهل الشقاوة، وقبره إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، حتى لو فني جسمه فإن روحه باقية، وهي التي تعود إلى مكانها يوم يأذن الله عز وجل ببعث الخلائق.
إذاً: هذا هو معنى قولنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نعبد إلا أنت يا رب، ولا نستعين إلا بك، لكن ذلك لا يمنع أن تستعين بحي في أمور محدودة يستطيع عليها، وتطلب منه المساعدة والعون، لكنك حينما تطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، أو تطلب هذا الأمر من ميت أياً كان هذا الميت؛ سواء كان من المرسلين أو من عامة الناس، فإنك في الحقيقة تطلب المستحيل؛ لأن هذه الأمور لا يملكها إلا الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان حياً حياة برزخية في قبره كما نؤمن بذلك، إلا أنه ميت عليه الصلاة والسلام، بخلاف ما يقوله غلاة الصوفية والمارقون: أن النبي صلى الله عليه وسلم حي، ويقولون: محمد خلق من نور، وليس له ظل، وهذا كله في الحقيقة كفر بالله عز وجل، وكفر بما جاء من عند الله عز وجل، وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى أخبر بأنه ميت:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر:٣٠]، أي: ستموت: {أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ}[آل عمران:١٤٤]، إذاً: الموت يقع عليه كما وقع على جميع الأنبياء، والخلاف في الذي لم يمت في الحقيقة هو عيسى عليه الصلاة والسلام، كما دل القرآن عليه حيث قال تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}[النساء:١٥٨]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}[آل عمران:٥٥]، علماً أن طائفة من المفسرين يقولون: قوله: (إني رافعك إلي) فيه تقديم وتأخير في المعنى لا في اللفظ، أي: رافعك ومتوفيك، فالله عز وجل رفعه إلى السماء وتوفاه، ويوم القيامة قبل أن تقوم الساعة حينما يخرج المسيح الدجال ينزله الله عز وجل إلى الأرض، ويقتل الدجال، ويكسر الصليب كما جاء في الحديث.
إذاً: موت الأنبياء موت حقيقي، لكن حياتهم برزخية، وقد حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم كما جاء ذلك في الحديث، أما الموت فإنه كتبه الله عز وجل على كل كائن حي بما في ذلك المرسلون عليهم الصلاة والسلام، وفي يوم القيامة يموت كل شيء حتى الملائكة، وآخر من يموت حملة العرش بعد أن يموت ملك الموت، ويفني الله عز وجل هذا العالم كله؛ لأن الله تعالى يقول:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}[القصص:٨٨]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}[الرحمن:٢٦]، فالذين يقولون: محمد غير ميت وهو حي، هم في الحقيقة يكفرون بالقرآن، ويكفرون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل من الكتاب والسنة، ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم في بشريته حينما قال:(ألا أنما أنا بشر)، فلم يخلق من نور، وإنما خلق من لحم ودم، وهذا معنى بشر، وليس هو أول المخلوقات؛ لأن أول مخلوقات البشر هؤلاء هو آدم عليه الصلاة والسلام، كما أخبر الله عز وجل:{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:٣٠].
وكل هذه من شطحات الصوفية الذين ضلوا الطريق، وأضلوا كثيراً من الناس في أيامنا الحاضرة وعبر سنين طويلة، وسوف يسألون يوم القيامة بين يدي الله عز وجل عن كل من ضل على أيديهم، وعن كل ما افتروه على الله عز وجل، وكذبوا به رسوله صلى الله عليه وسلم، بالرغم من أنهم يزعمون أنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم.
وعلى هذا نفهم قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:٥]، أن الاستعانة أيضاً كالعبودية، وهذا نفهم منه أن الاستعانة نوع من العبادة، بل هي جزء مهم من جزئيات العبادة؛ لأن الله عز وجل ذكرها بعد العبودية مباشرة، وبالرغم من أنها جزء من جزئيات العبودية إلا أنها أصل من أصول العبودية لله عز وجل، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(وإذا استعنت فاستعن بالله)، لا تسأل غير الله عز وجل، وذلك كله مرتبط بقوله تعالى:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: الاستعانة يجب أن تكون لله عز وجل وحده لا شريك له.