أما الذين يقبعون في زاوية من زوايا الحياة، ويصبحون عالة على غيرهم، ويظنون أن الدين رهبانية وانزواء! وأنه لا يسمح للمسلم بأن يزاول أي مهنة من المهن، أو أي صنعة من الصنعائع! حتى ظن بعض الناس أن شيئاً من هذه الصناعات يؤثر على السمعة وعلى الشرف؛ إذا اتجه الناس هذا الاتجاه، فإنهم قد خالفوا الشرع واتجهوا خلاف الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه! (جاء ثلاثة نفر إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لإحدى زوجاته: ماذا يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر؟ فأخبرتهم بعمله في السر، وأنه يعمل للدنيا وللآخرة، فكأنهم تقالوا هذا العمل، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، وقال الثاني: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء! فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمقالة هؤلاء غضب غضباً شديداً، ثم صعد المنبر وقال: أيها الناس! أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، أما إني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وقد ذكر الله في القرآن الكريم قصة الرجال العقلاء العلماء الذين كانوا يوجهون النصائح إلى قارون، وهو الرجل الذي تنكر لله عز وجل، ونسي النعمة والمنعم! فكانوا يوجهون له النصائح بأن يستغل هذه الثروة وهذا المال فيما يرضي الله عز وجل، فكان من نصائحهم:{وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا}[القصص:٧٧]، قال بعض المفسرين: أي: خذ من الدنيا بنصيب، لكن لا تجعل الدنيا أكبر همك.
وهذه الوصية التي يجب أن نقدمها دائماً لمن أراد أن يصل إلى مصاف الرجال.
إذاً: هذه هي الصفة الثالثة من صفات هؤلاء الرجال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}[النور:٣٧]، فيشتغل للدنيا ويشتغل للآخرة، لكن عليه أن يضع كل واحدة في موضعها المناسب، بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى، وبحيث لا ترتفع إحداهما على كفة الأخرى.