[الأسباب المؤدية إلى تنزل النصر عند لقاء العدو]
الجهاد في سبيل الله هو الوسيلة التي بواسطتها نستطيع أن نزيح الفتنة عن الأرض؛ وبالجهاد في سبيل الله يكون الدين كله لله، فلا يبقى نظام لله ونظام لقيصر، وما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولكن يكون الدين كله لله، ولتحكم هذه الأرض كلها بشريعة الله، ولا تُحكم بقوانين البشر وآراء الرجال؛ وعندها سيتحقق هذا الهدف: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:٣٩].
فالأمة الإسلامية مطالبة بالجهاد في سبيل الله، لا سيما حينما يهجم العدو على بلاد المسلمين، فإن النفير يصبح إجبارياً واجباً، ويصبح فرض عين على كل واحد من المسلمين أن يجاهد في سبيل الله، كيف لا والمسلم قد أبرم بيعة بينه وبين ربه سبحانه وتعالى؟! وهذه البيعة استوفيت فيها كل شروط وأركان البيع المعهودة المعروفة عند الفقهاء، وهذه البيعة موثقة في كل الكتب السماوية، وقد جاءت في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:١١١] وأركان البيع الأربعة موجودة في هذا السياق، وهي البائع وهو: المسلم، والمشتري: وهو الله عز وجل، والسلعة وهي: النفس والمال، والثمن: وهو الجنة، وهذا البيع نافذ وليس فيه خيار، ثم وثق الله تعالى هذا البيع في الكتب السماوية حيث قال: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآن) ولما سمع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه هذه الآية قال: (يا رسول الله! ما لنا إن قتلنا في سبيل الله؟ قال: الجنة، قال: يا رسول الله! والله ربح البيع، لا نُقيل ولا نستقيل).
وقد التزم سلف هذه الأمة بهذه الوثيقة الربانية، فبعد نزول هذه الآية وأمثالها جعل المسلمون يخرجون كافة من المدينة للجهاد، ولم يستثن أحد منهم نفسه، حتى أمرهم الله عز وجل أن تتفرغ منهم طائفة لطلب العلم بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:١٢٢] وهكذا كانت تؤثر الآية القرآنية في المسلمين.
وقد جاء الوعد الحق من الله عز وجل ومن رسوله عليه الصلاة والسلام للمجاهدين في سبيله بالدرجات العلى في الجنة، كما جاء في الحديث: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله) فإذا كان ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض؛ فأعلى درجة كما بين السماء والأرض، مائة درجة بهذا القدر للمجاهدين في سبيله تعالى.
وأما عن المسئولية عن تعطيل الجهاد فالمسلمون هم الذين يتحملون مسئولية تعطيل الجهاد في أي فترة من الزمن، ويكون تسلط العدو على المؤمنين بمقدار ما يعطلون من هذا الأمر العظيم (وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا).
بل إنه يوشك أن يكون ترك الجهاد ردة عن الإسلام، وقد روي عن النبي عليه السلام قوله: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم بأذناب البقر -يعني: انشغلتم بالحرث عن الجهاد- سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ولا يقال: (حتى تراجعوا دينكم) إلا لمن تركه أو قارب!! والجهاد في سبيل الله كما علمنا واجب حتمي، وأما ما يترتب عليه من نصر فلا يحصل عليه كل الناس، فالنصر لا يكون إلا بشروط بينها الله تعالى في القرآن، والذي يقرأ التاريخ يرى كيف استطاعت الأمة الإسلامية أن تحقق النصر والقيادة والريادة في العالم عبر التاريخ الطويل، عندما تمسكت بشروط وأسباب النصر، وكيف تأخرت وتخلفت وانهزمت حينما تركت هذه الأسباب.
وهذه الأسباب بيَّن الله تعالى أكثرها في سورة الأنفال، وهي السورة العظيمة التي نزلت لتتحدث عن موقعة بدر، وتتكون من ست وسبعين آية كلها تتكلم عن التربية المعنوية، ما عدا آية واحدة تناولت التربية المادية والإعداد، وهي قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:٦٠] فإذا استثنينا هذه الآية، فيصح أن نقول: إن السورة كلها تتكلم عن تربية هذه الأمة وإعدادها إعداداً معنوياً للجهاد في سبيل الله.
وبإمكاننا أن نجملها في ستة أسباب ثم نبيّن مدلولاتها، وهذه الأسباب الستة يقول الله تعالى عنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:٤٥ - ٤٧].