للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التعرض للبلاء والمصائب والفتنة في الدين]

ومن عوامل الاستقامة: الضغط على المؤمنين.

والحقيقة أن هذا السبب يصلح أن يكون عاملاً من عوامل الاستقامة، كما أنه قد يكون في بعض الأحيان عاملاً من عوامل الانحراف، فالمؤمن الحق حينما يتعرض للأذى في دينه ويُفتن في دينه وتفتح له السجون ويوجه له اللوم والعتاب والسخرية: انظروا إلى لحيته! انظروا إلى ثوبه القصير! انظروا إلى كذا، انظر إلى كذا، فالمؤمن لا يزيده ذلك إلا إيماناً بالله عز وجل، ويعرف أنه لولا أنه على حق لما كان يوجه إليه مثل هذا العتاب وهذا النقد؛ لأن الله تعالى قد أخبرنا فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:٢٩ - ٣٣]، ثم تتغير المعايير في الآخرة: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:٣٤ - ٣٥]، والمسلم حينما يعيش حياة الضعط والإيذاء في دينه يعرف الله عز وجل حق المعرفة، ويعرف أنه ما أوذي في دينه إلا لأن هذا الدين فيه قوة وفيه صلابة، ولذلك يقول الشاعر: لولا اشتعال النار فيما جاورتْ ما كاد يُدرَى طيب عَرْفِ العودِ لو جئت بقطعة من العود الطيّب النفيس فشممته فإنك لن تشم له رائحة زكية طيبة حتى تشعل النار حوله وتضعه في هذه النار، فتخرج رائحة هذا العود أحسن ما كانت.

ولذلك جعل الله تعالى هذه الفتن تمحيصاً للمؤمنين وتقوية لإيمانهم، فإن الإيمان يضعف، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا المبدأ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:٢١٤] تصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: متى نصر الله؟! والمؤمنون وهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم بأعينهم يقولون: متى نصر الله؟! هذه فتنة لم يحصل لها نظير أبداً في عالم الناس اليوم ولا ما قبل هذا اليوم، إلى درجة أن الرسل أنفسهم يستبطئون نصر الله عز وجل.

ويقول سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:١ - ٢]، ثم يقسم الله جل جلاله فيقول: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:٣].

ثم يتوجه مرة أخرى إلى هؤلاء الذين يؤذون المؤمنين في دينهم، ولربما يصرفون طائفة من الناس عن دينهم بسبب هذه الفتن القاسية، وبسبب هذا الإيذاء العنيف الذي يوجهونه إلى المؤمنين، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:٤]، ثم إن هذه السورة تختم بمثل ما بدئت به: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:٦٩] وفي وسطها قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت:١٠] أي أن من الناس ضعاف الإيمان قوم لا يتحملون الفتن، فأحدهم يقول: أنا فررت من عذاب الآخرة إلى الجنة، وإذا كان في فراري هذا عذاب لي في الدنيا فأنا لا أتحمل -نعوذ بالله-، فأنا فررت من العذاب فكيف أوقع نفسي في عذاب الطغاة والمتجبرين! إذاً أتحمل عذاب الآخرة ولا أتحمل عذاب هؤلاء الطغاة؛ لأنه أمام عيني الآن.

يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت:١٠] أي: إذا أوذي من أجل الله عز وجل {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} [العنكبوت:١٠] أي: في الدنيا وعذاب الناس {كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:١٠] في الآخرة.

إذاً طريق الجنة ليس مفروشاً بالورود والزهور والرياحين، طريق الجنة ليس معبداً وإن كان واضحاً، طريق الجنة فيه فتن، فما على هذا المسلم إلا أن يتحمل من أجل الله عز وجل وفي ذات الله، وحينئذٍ يستطيع أن يستحق الشهادة الكبرى من الله عز وجل بأنه من المجاهدين في الله عز وجل.

فمن الأسباب هذه الفتن التي تعترض طريق بعض المؤمنين في سبيلهم وسيرهم إلى الله عز وجل، والمسلم يجتاز هذه المرحلة كما اجتازها أسلافه الأوائل رضي الله عنهم، الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد أتوا ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! فقال: لقد كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيوضع في حفرة ثم ينشر نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دين الله، ووالله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).

فالفتن يجب أن يتحملها المسلم إذا كانت في ذات الله عز وجل، وإن كثيراً من إخواننا في العالم الإسلامي يلاقون هذه الفتن، فمنهم من يصبر ويحتسب، ومنهم من يرجع من منتصف الطريق فيكون من الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:١١] أي: على طرف بين الإيمان والكفر {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:١١].