للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حادثة الإفك ووجه تعلقها بالقذف والدروس المستفادة منها]

قصة الإفك هي نوع من القذف، وأنواع القذف ثلاثة: الأول: قذف عام، قذف المرأة والرجل.

الثاني: قذف الزوجة من قبل الزوج وعرفنا حكمه.

الثالث: هو أخطر أنواع القذف كلها، وهو قذف زوجة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك يؤدي إلى عذاب عظيم، ولذلك تجدون في قصة قذف زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:٢٣] هذا في الدنيا أما في الآخرة: فقال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:٢٤].

قصة قذف عائشة رضي الله عنها استغلها بعض المنافقين، كما يستغل الآن المنافقون الفرص من أجل أن يدخلوا في المجتمعات ليشوهوها، ففي غزوة بني المصطلق وتسمى أيضاً غزوة المريسيع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد خرج بـ عائشة معه، وهو راجع من هذه الغزوة، في آخر مرحلة من مراحل الطريق نزل الرسول صلى الله عليه وسلم هو والجيش في الليل، وعرسوا -أي: ناموا في الليل- فلما كان الصباح وكانت عائشة رضي الله عنها تحمل في هودج ذهبت لقضاء حاجتها، ثم رجعت ورأوها رجعت، ولكنها لما رجعت وجدت أنها فقدت عقدها، فرجعت تبحث عنه، فحملوا الهودج ووضعوه على البعير وهم يظنون أن عائشة رضي الله عنها موجودة فيه، ومشت القافلة وعائشة ليست معهم في القافلة، رجعت عائشة رضي الله عنها ووجدت القوم قد رحلوا، فقالت: حسبي الله ونعم الوكيل، وعرفت أنها فتنة حصلت.

كان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه يسير وراء القافلة في المؤخرة، فرأى سواداً، فنظر فإذا هي زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم فاسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل عن بعيره وركبت، وصار يقود البعير أمامها حتى لحق بالقوم، فاتخذها المنافقون فرصة ليطعنوا في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول لعنة الله عليه رأس المنافقين، وشاركه في ذلك بعض المؤمنين جهلاً، فقالوا: إنها تواعدت مع صفوان بن المعطل السلمي وتأخرت للفاحشة، وانتشر ذلك نعوذ بالله في المدينة، وما علمت عائشة إلا مؤخراً، والرسول صلى الله عليه وسلم سمع الكلام فاعتزل عائشة رضي الله عنها، حتى أنزل الله عز وجل هذه الآيات براءة لها: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:١١] إلى آخر الآيات)، ويمكن أن نمر عليها بسرعة.

والمراد بالإفك هو: أشد أنواع الكذب، والعصبة هي الجماعة، وقوله تعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) الخطاب لـ عائشة ولأبيها وللمسلمين، أي: هذه القصة وإن كانت شوهت عائشة في الظاهر، لكن فيها خير وهذا الخير رآه المسلمون بعد ذلك، ألا وهو انكشاف أهل النفاق كـ عبد الله بن أبي وجماعته.

وأيضاً نزلت براءة عائشة رضي الله عنها، ونزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وثبت الله عز وجل المؤمنين، وعلمهم كيف يتعاملون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصل خير كثير من هذه القصة، فالله تعالى يقول: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: فيه خير وإن كان في الظاهر شراً، وقد يكره الإنسان أمراً من الأمور ويكون له في هذا الأمر خير.

ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ) أي: من المؤمنين.

قوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) الذي هو عبد الله بن أبي الذي أشاع الفاحشة (له عذاب عظيم).

ثم علم الله تعالى المؤمنين في مثل هذه الحال بقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:١٢] أي: إذا رأيتم رجلاً صالحاً يقذف أو امرأة صالحة تقذف فلا تصدقوا، لاسيما إذا كانت زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقع الزنا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هذا مستحيل.

(ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي: كما قال بعض الصحابة لزوجته وقالت له: (قالت المرأة: هل سمعت ما قيل في عائشة؟ قال: نعم سمعت، فقال لها: هل تفكرين أنت في هذه الفاحشة؟ قالت: لا والله ما أفكر بها، قال: إذاً عائشة أفضل منك).

إذاً: قوله تعالى: (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا) أي: كما أنك تظن بنفسك خيراً وبأهلك خيراً، فأولى أن تظن خيراً بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإن قذف واحد من المؤمنين يؤثر على سمعة كل المسلمين إذا كان بغير حق.

قال الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:١٣] أي: هلا جاءوا، مع أنهم لا يستطيعون الإتيان، ولا يمكن أن يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على ذلك، اللهم إلا إذا كانوا شهداء زور كما يزور طائفة من الناس الذين لا دين لهم الشهادة.

يقول الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:١٤] أي: أن الله تعالى رحمكم، وهذا الكلام الذي نشرتموه لولا أن الله رحمكم لأنزل على الجميع عقوبة، أي: كيف يتهم بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وفراش الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ثم يبين الله عز وجل لنا موقفنا حينما نسمع الإشاعات الكاذبة عن الصالحين والصالحات يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:١٦] وهذا موقف يجب أن يفقهه المسلم أمام أي فتنة من الفتن تشاع، ضد واحد من الصالحين أو واحدة من الصالحات.

يقول الله بعد ذلك: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:١٧] أي: احذروا، وهذا تحذير للمؤمنين الذين حينما نزلت هذه الآيات تابوا فالله تعالى قبل توبتهم وقال: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ).