[تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد)]
ثم قال الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]، هذه الآية تحمل مطلق العبادة والاستعانة بالله عز وجل، وأنه ليس هناك عبودية لأحد إلا لله عز وجل، وليس هناك معبود إلا الله عز وجل، ونأخذ كلمة التوحيد المطلقة من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]؛ لأن (إياك) مفعول لنعبد، و (نعبد) فعل مضارع، والفاعل نحن، وتقديم المفعول على الفعل والفاعل مما يدل على الاختصاص، وهذه قاعدة في اللغة العربية: كلما قدم ما حقه التأخير فإنه يدل على الاختصاص، وعلى هذا فإنه يصبح قولنا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي: لا نعبد أحداً سواك، ولذلك جاء الضمير منفصلاً؛ لأنه تقدم عن مكانه، وتقدمه للحصر؛ لأنه كلما قدم ما حقه التأخير فيكون حصراً.
إذاً: معنى قول الله عز وجل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي: لا نعبد إلا إياك، ونأخذ الحصر من تقديم ما حقه التأخير، وعلى هذا فإن هذه الآية بجزئها الأول حصرت العبودية لهذا الإنسان لله عز وجل وحده، أي: لا نعبد أحداً سواك، وعلى هذا فإنها تحتوي على كلمة التوحيد المطلقة التي لا تقبل أي جدال ولا شك، ولذلك لما أطلق التمجيد لله عز وجل في تخصيصه سبحانه وتعالى بالعبادة، وتخصص هذا الإنسان بالعبودية لله عز وجل، قال الله عز وجل كما في الحديث: (مجدني عبدي)، عند هذه الآية، فالتمجيد معناه: الثناء الكامل وإضافة المجد كله لله عز وجل.
وعلى المسلم وهو يكررها في كل ركعة من صلاته أو في غير الصلاة أن يفهم حقيقتها، فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، فلا يحني ظهره لغير الله عز وجل، ولا يطأطئ رأسه لغير الله عز وجل، ولا يضع أشرف عضو من أعضائه -وهو الوجه- على الأرض إلا لله عز وجل.
وعلى هذا فإن الله سبحانه وتعالى في مثل هذه الآية خص نفسه بالألوهية، ولذلك يرفضها المشركون؛ لأنهم يعبدون آلهة الكفر مع الله عز وجل، ولو قالوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فإنهم يقولون: نعبد الآلهة الأخرى مع الله عز وجل التي تقربنا إلى الله زلفى، ولذلك فإنهم يرفضون (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؛ لأنهم يعرفون أن معناها: لا نعبد أحداً سواك، وهم مضطرون -كما يظنون في قرارة نفوسهم الضالة- أنهم لا بد أن يضعوا هذه الآلهة واسطة بينهم وبين الله عز وجل، كما في قوله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣].
أما إذا تفهمت يا أخي الكريم! (إياك نعبد)، فإنك تفهم أن معناها الحقيقي: لا يمكن أن يكون هناك معبود غير الله عز وجل، ولا هناك عابد لله عز وجل يعبد مع الله غيره، ونحن نرى أو نسمع أن هناك عشرين ألف ضريح يعبد من دون الله عز وجل في هذا العالم، وقد رأيت كثيراً منها يحج إليها طائفة من الناس، ويتمرغون حول هذه القبور، ويطوفون بها، ويسألونهم الحاجات من دون الله عز وجل، ويقولون: إنها تقربنا إلى الله زلفى، كما قال المشركون الأولون، إلا أنهم يغيرون اللفظ فقط ويقولون: هذه ترمز إلى رجال صالحين، وهذه قبور أناس صالحين نرجو شفاعتهم يوم القيامة، والحقيقة أن هذا يشبه إلى حد بعيد بل لا يختلف أبداً عن قول المشركين الأولين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣]، والله عز وجل لا يحتاج إلى واسطة، فمجرد ما يرفع يديه هذا الإنسان إلى السماء، أو يقول: الله أكبر في الصلاة؛ ينفتح الحجاب بينه وبين الله عز وجل، ويسأل الله عز وجل من خيري الدنيا والآخرة دون أن يحتاج إلى وساطة؛ لأن الله عز وجل لا يريد أن يسأل بجاه أحد، أو بصلاح صالح، أو بأي شيء آخر، وأن يجعل بينه وبين الله عز وجل واسطة.
وعلى هذا: فإن أصحاب الأضرحة والقبور في أيامنا الحاضرة ضلوا الطريق حينما يقولون: هؤلاء الصالحون نرجو شفاعتهم في الآخرة، وأشبهوا المشركين الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣].
وربما يكون هذا الكلام -في بلادنا هنا والحمد لله- قد لا يفهمه كثير من الناس، لاسيما الذين لم يسافروا خارج هذه البلاد، فإن بلادنا هذه -والحمد لله- حرسها الله تعالى بدعوة سلفية منذ مئات السنين، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، التي جددت لنا دعوة التوحيد التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، حينما اتفق مع أمير هذه البلاد محمد بن سعود رحمة الله عليهم أجمعين، فتعاهدوا على كلمة التوحيد، وهدمت القبور والأضرحة كلها، فبلادنا -والحمد لله- خالية تماماً إذا لم نذكر ما يوجد من القلة الذين يأتون من بلاد انتشرت فيها الوثنيات والشركيات في بلادهم، ثم يذهبون إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد يأتون بشيء من الشركيات التي نسأل الله عز وجل أن يوفق المسئولين -وهم ما زالوا يحاربونها- أن يزيدوا في محاربتها؛ لأن مكة والمدينة -حرسهما الله عز وجل- تلتقي فيهما عدة حضارات من حضارات العالم، كما تلتقي فيها جنسيات العالم، فيأتي أناس يحملون هذه الفكرة التي هي في بلادهم، وربما يقول أحدهم في بلادنا هنا حينما يصل إلى مكة والمدينة: إذا كنا هناك نعظم ونقدس أناساً عاديين فأولى بهذا التعظيم وهذا التقديس الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما يأتون بشيء من شركياتهم، وهذا هو ما نشاهده في بعض الأحيان حول قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، التي هي مركز التوحيد سابقاً.
لكن -والحمد لله- نجد في سلطتنا الخير الكثير، فهم ما زالوا ولم يزالوا وسيستمرون إن شاء الله على محاربة هذا الفكر الذي يرد ويأتي به أناس ربما لا يفهمون الحقيقة الواقعية في المملكة العربية السعودية، إضافة إلى أن بلادنا لا يوجد فيها الشرك، خصوصاً هذه المناطق التي نعيش فيها نحن هنا في نجد وما حولها؛ لأنها بلد انتشرت فيها قاعدة التوحيد والحمد لله، وجددها المجددان محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود رحمة الله عليهما، فنشكر الله عز وجل على هذه النعمة، ونسأل الله أن يزيد المسئولين في هذا البلد إيماناً ويقيناً وتوحيداً، وأن يثبتنا وإياهم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.