[مجمل الاحتياطات التي وضعها الإسلام لمحاربة الرذيلة]
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك، وعلى آله ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.
أما بعد: أحبتي في الله! القرآن هو منهج الحياة، والأمة في العصور الماضية ما كانت تفكر أن هناك نظاماً سوف ينافس القرآن، ونحن الآن نتأكد أنه لن ينافس القرآن شيء، لكن ظن أعداء الإسلام أنهم سوف ينافسون القرآن وينازعونه بأنظمتهم وقوانينهم ولكن يأبى الله إلا أن تتعقد الحياة ويختلط الحابل بالنابل حتى يعود الناس إلى كتاب الله جملة واحدة قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:٢٠٩] أي: في جميع شرائع الإسلام.
ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي! وأنتم ترون العالم اليوم وقد أمسك بالزناد ينتظر حروباً دامية، بل لا تكاد تسمع أخبار العالم عبر الأثير إلا وتسمع المجازر والمذابح، هذا ليس غريباً؛ لأن الناس إذا أعرضوا عن كتاب الله عز وجل سوف يحدث أكثر من ذلك؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:٣٨] وبالمفهوم من أعرض عن هدى الله فعليهم الخوف وعليهم الحزن.
وفي آية أخرى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٣٢ - ١٢٤].
يقول الله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:١٣٧] (فَإِنْ آمَنُوا) أي: العالم (بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ) أيها المسلمون (فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) ولذلك يحاول الغرب عبثاً أن يقودوا هذا العالم على غير عقيدة، وعلى غير منهج من عند الله، ويأبى الله ذلك حتى يعود الناس كلهم إلى كتاب الله وإلى تشريعه.
ليعلم الناس أجمعون وليبلغ الذين يسمعون من لا يسمعون أن هذه الأمة لا تتفق إلا على منهج صحيح؛ ولذلك هنا في بلدنا هذه لها من الأمن بمقدار ما تطبق من شرع الله، قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢] كما أنها لو تخلفت ولم تطبق شرع الله فسيكون نصيبها من ضياع الأمن ووجود شيء من الفوضى، فلينتبه الغافل وليعلم الجاهل.
أيها الإخوة: الحلقة التي اخترناها في هذه الليلة هي: كيف حافظ الإسلام على الفضيلة وحارب الرذيلة، ولذلك اخترت لكم النصف الأول من سورة النور؛ لأن سورة النور سورة عظيمة جداً وكل القرآن عظيم، لكن لفت القرآن نظرنا إلى عظمة سورة النور، فبدأها بقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:١] وكان هذا اللفت للنظر يثير الانتباه، بحيث يجب على المسلمين أن يقرءوا سورة النور، ولربما يكون في سورة النور شيء يجرح المجرمين، لكنه في الحقيقة يصلح المجتمع، ولذلك فسورة النور في نصفها الأول تحارب الرذيلة التي لها دعاة في أيامنا الحاضرة، لكنهم لا يقولون: نحن نريد الرذيلة ونريد أن ينتشر الزنا في المجتمع، وهم في الحقيقة إنما يريدون ذلك؛ لأنهم حينما يكثرون علينا في أمر المرأة، المرأة، المرأة، والله ما يريدون خيراً للمرأة، وإنما يريدون للمرأة أن تفسد فيفسد المجتمع، فتخف وطأة الطريق الطويلة التي يبحثون فيها عن الفاحشة، فتكون هذه المرأة في متناول أيديهم، ولكن يأبى الله إلا أن تبقى هذه الأمة -لاسيما في جزيرة العرب منشأ الإسلام- آمنة مطمئنة محافظة على دينها وأخلاقها، رغم أنوف هؤلاء الحاقدين.
اخترت لكم النصف الأول من سورة النور والعجيب أن هذا النصف بدأ بما يلفت النظر وختم بمثل ذلك، فأول آية فيها: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:١] وآخر آية في هذا النصف: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:٣٤].
هذه السورة كلها مدنية، ونصفها الأول يركز على موضوع واحد وهو موضوع الأخلاق والفضائل واحترام المرأة ومحاربة الزنا، وإقرار قواعد الفضيلة ومحاربة الرذيلة، فيقول الله عز وجل في مطلع هذه السورة: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا).
ثم يبين أسساً تكفي لحماية أي مجتمع من العابثين الذين يريدون أن تشيع فيهم الفاحشة، فأول آية بعد هذه الآية قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:٢].
إذاً: هي ركزت على محاربة الزنا، وأول احتياط جاء في هذه السورة هو الحد، وسميت الحدود حدوداً لأنها حواجز أمام النفس البشرية تمنع من الوقوع في الفاحشة؛ لأن النفوس البشرية في طبيعتها تهوى هذا الأمر؛ لأن الشهوات قد ركب عليها الإنسان وكذلك كل مخلوقات الله تعالى الحية ركبت على هذه الشهوة، ولا بد من حماية جانب الأخلاق ما دامت هذه الشهوات موجودة.
إن إقامة الحدود أمر عظيم، وما حصل في العالم الإسلامي اليوم من خلل فإن أكبر أسبابه تعطيل هذه الحدود، تراهم يتعاطفون مع المجرم ويقولون: إن تطبيق الحدود من قطع يد السارق، ورجم الزاني، وقتل القاتل، فيها قسوة ووحشية، أهذه هي الوحشية.
أم الوحشية العبث في أخلاق الناس وفي أموال الناس وفي أمن الناس وفي أعراضهم؟! الأخيرة هي الوحشية حقيقة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (حد يقام في الأرض خير لها من أن تمطر أربعين خريفاً).
إذاً: الاحتياط الأول: هو الحد: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ).
الاحتياط الثاني: هو المحافظة على سمعة المجتمع بحيث يصبح هذا المجتمع لا يتحدث فيه عن الرذيلة، لأن الحديث عن الرذيلة يخفف وطأة الجريمة على الإنسان، ولم تعد كلمة الزنا تصك الآذان؛ لأنها أصبحت مبذولة وأصبحت سهلة مألوفة لدى الناس، لذلك جاء الاحتياط الثاني: وهو حد القذف، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:٤].
الاحتياط الثالث: في جانب الاختلاط، ولذلك لا تعجبوا يا إخوتي حينما جاء أعداء الإسلام ونشروا الاختلاط في الجامعة وفي المدرسة وفي السوق وفي المكتب وفي كل شيء؛ لأنهم يعلمون أن هذا تمهيد للفاحشة.
أما الإسلام فقد حارب الاختلاط كما في قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧].
الاحتياط الرابع: هو غض البصر؛ لأن النظرة سهم مسموم كما أخبر الله عز وجل في الحديث القدسي بقوله: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركه من أجلي، أبدلته إيماناً يجد لذته في قلبه).
الاحتياط الخامس: الزواج، الذي يدعو إلى هجره كثير من أعداء الإسلام، ويقولون: العشق خير من الزواج، وهنا كلمة عند الإنجليز متداولة عند بعض شباب المسلمين: إذا كان اللبن يباع في الأسواق فلا حاجة إلى أن تشتري بقرة، يقولون هذا بلغتهم الخاصة.
إذاً: لا حاجة إلى الزواج ما دمت تستطيع أن تشبع هذه الرغبة من غير زوجة ترتبط بها وترتبط بك، وتطالبك بالنفقة وغيرها من التكاليف، وربما تنجب لك أولاداً وهؤلاء الأولاد يكلفونك تكاليف كثيرة لا حاجة إليها، يقولون ذلك من أجل أن ينشروا الجريمة في المجتمع.
أما الإسلام فقد ركز على هذه الأمور الخمسة وهي التي ستكون إن شاء الله موضوع حديثنا في هذه الليلة، مع مراعاة بعض الألفاظ اللغوية أو بعض الألفاظ النحوية التي تعرض لنا في هذه الآيات، وكذلك بعض الأحكام مع إشارة يسيرة إلى بعض الخلافات التي ربما نضطر إليها لتوضيح أمر من الأمور، التي أصبحت مثار جدل ككشف الوجه والكفين وما أشبه ذلك من الأمور التي يناقش فيها طائفة من الناس اليوم، وهم لا يريدون الوجه والكفين حقيقة، وإنما يريدون أن تتفسخ المرأة، لكنهم يبدءون بالوجه والكفين، ولذلك هم يقولون: إن كشف الوجه والكفين جاء به القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:٣١] كما سيأتينا إن شاء الله في الآية، وهؤلاء لو كانوا يقفون عند حد الوجه والكفين لكان الأمر معقولاً؛ لأن هذا الرأي قديم لبعض العلماء، لكن هم يريدون أن يكون هذا مدخلاً للتفسخ؛ لأن كشف الوجه يعتبر إزالة للحياء من وجه المرأة، فإذا كشفت الوجه تفعل ما تشاء.