هذا النوع من أنواع البشر -نعوذ بالله- وإن كان الإيمان وصل إلى قلوبهم لكنه ما استقر فيها، أقوام ورثوا هذا الدين من آبائهم وأجدادهم، ولم يصل هذا الدين إلى سويداء قلوبهم، بل أخذوا هذا الدين بالتقليد أو بالوراثة أو بالبيئة، لكن هذا الدين ما تمكن من القلب، وهذا الإيمان مثله سرعان ما يتلاشى ويزول إذا أصابته أية حادثة أو مصيبة، أو ابتلي بأية فتنة.
يقول الله عز وجل عن هؤلاء:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}[الحج:١١]، أصل الحرف في اللغة: الطرف، عندما تصعد إلى طرف الجبل فهذا يسمى حرف الجبل، ولما تصعد إلى الرمال العالية ما بين المرتفع والمنحدر يسمى هذا حرفاً، أي: كأنه على طرف، يوشك أن يسقط في أي لحظة -نعوذ بالله- فهو يعيش على طرف سكين، على أمر حاد، وسرعان ما يسقط هذا الذي يعبد الله على حرف، لماذا؟ لأنه ما فهم هذا الدين فهماً حقيقياً، إبراهيم عليه السلام وهو أقوى الناس إيماناً قال الله عنه:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي}[الأنعام:٧٦]، هو يبحث عن الله، وليس في الله تعالى شك، وليس إبراهيم ممن يخفى عليه ربه سبحانه وتعالى، ولكنه يريد أن يعلم الناس كيف يعرفون الله عز وجل حق المعرفة؛ فلما جن عليه الليل رأى كوكباً فقال: هذا ربي، فلما أفل وغاب الكوكب، قال: لا أحب الآفلين، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[الأنعام:٧٧ - ٧٩]، هذا الإيمان الذي وجد نتيجة التفكير في قدرة الله عز وجل، وفي عظمة الله عز وجل، وفي ملكوت الله عز وجل هو الإيمان الثابت، هو الذي لما حاجه قومه قال:{أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ}[الأنعام:٨٠]، حتى إنه لما قذف في النار التي ما كان لها نظير في الدنيا، وقال الله لها:{يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}[الأنبياء:٦٩]، ويأتيه جبريل في هذه اللحظة، ويقول: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا.
هذا هو الإيمان الحق الذي نريد أن نبحث عنه، لا نريد أن نأخذ الإيمان بالتقليد ولا بالوراثة فقط، وإن كنا مطالبين بأن نتبع آباءنا على خير، لكن نحن مطالبون بأن ننظر في قدرة وعظمة ومخلوقات الله عز وجل، وحينئذٍ يثبت الإيمان، ويقر في مكان رصين فلا يتعثر ولا يزول، لاسيما ونحن نعيش اليوم فترة ما مر تاريخ الإنسانية بأعظم منها، وإن كنا لا نتناسى فيه الصحوة الإسلامية ونشكر الله عز وجل عليها، لكننا نعيش فترة فيها من البلاء والفتنة والاضطراب والتقلب ما لم يوجد في تاريخ البشرية جمعاء.
فترة أخبرنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها:(فتن كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمنا ًويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، ثم يقول عنها:(ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، ثم ألا إنها ستكون فتن، قالوا: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله وسنتي).
إذاً: هذه الفترة تمتاز بالتقلب في حياة الناس، والطريق الثابت الذي نضمن فيه -بإذن الله عز وجل- الثبات بحيث نموت على الإسلام وندرك حسن الخاتمة، ونستجيب لقول الله عز وجل:{اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:١٠٢]، الطريق الثابت هو أن نأخذ هذا الدين عن اقتناع، ومحبة ورغبة، وأن نتمسك بهذا الكتاب؛ لأن الله تعالى يقول:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ}[الأعراف:١٧٠]، ويقول:{خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ}[مريم:١٢]، أي: لا بضعف، حينئذٍ نسلم بإذن الله عز وجل من التقلب والأهواء والفتن.
ولذلك أخبرنا الله تعالى عن هذا النوع من البشر بقوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ}[الحج:١١]، وكان لهذا نظائر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كثير من الأعراب يدخلون في الإسلام، فإذا أصابتهم سنة كسب وخير وأمطار، وولدت أغنامهم، وكثرت ألبانهم؛ ثبتوا على دين الله عز وجل، وإن أصابتهم ضراء بحيث أصابهم الجدب، وقَلت الأمطار، وقل النبات؛ قالوا: هذا دين لا يصلح، اخترنا هذا الدين فأصبنا بهذه النكبات؛ فتركوه، لكن نحن الآن نلاقي من الفتن ما هو أعظم من ذلك، فالسجون الآن مليئة بكثير من المؤمنين في كثير من أنحاء العالم الإسلامي، إذ قالوا: ربنا الله، لكن أترى أن هؤلاء المؤمنين سيصمدون وسيقفون معتزين بدينهم أمام هذه الفتن أم سيرجعون من منتصف الطريق؟ أنا أرى أن الكثير من الناس يضعف أمام هذه الفتن، نرى كثيراً من إخواننا الوافدين من البلاد المجاورة اليوم ملتحياً، وغداً نراه غير ملتحٍ، لماذا؟ أين ذهبت؟ قال: بلدي فيها فتنة، وإذا ما ذهبت إليها فقد أعاقب على هذه اللحية، فأصبحنا لا نملك من دين الله عز وجل ولا حتى مظاهر شعائر هذا الدين، وأصبحنا نخاف من أعداء الله عز وجل أكثر من خوفنا من الله عز وجل! هل يستطيع أولئك الأعداء أن يقدموا الأجل أو يؤخروه؟ لا والذي نفسي بيده لا يستطيعون ذلك، هل يستطيعون أن يزيدوا في الرزق أو ينقصوه؟ لا والله، ولكنه الخوف من خلق الله عز وجل، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).
وعلى هذا فإني أقول: إذا كنا نعيش عصر الفتنة، ونحن لا ننكر مواقف الطغاة من المؤمنين في أيامنا الحاضرة، لكننا نقول: إذا أخذنا هذا الإيمان عن اقتناع، وأخذنا هذا الكتاب الذي بأيدينا بقوة، وعاهدنا الله عز وجل على العمل به؛ فلن يضيرنا ما فعلوا، ويقول قائلنا بلسان حاله أو بلسان مقاله لله عز وجل: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب يجب أن نقول هذا الكلام ونخاطب به الله عز وجل، لا أن نخاطب به مخلوقاً من المخلوقين، فيكون إيماننا صلباً، ونستطيع أن نقف به أمام هذه الفتن، وأمام هذه الشدائد، أما ذلك الإيمان الذي يعبد الإنسان فيه ربه على حرف فنعوذ بالله منه، هذا الإيمان لا يمكن أن يقف على قدميه فضلاً عن أن يعيش في أيامنا الحاضرة بالذات؛ لأن أيامنا أيام فتن وتقلب وأهواء ومصالح، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يجهر حتى بأمور دينه، حتى لقد سمعنا أن أقواماً لا يستطيعون الذهاب إلى المسجد في صلاة الفجر أو في أكثر الصلوات في بعض البلاد المجاورة؛ لأن أعداء الله سيأخذونهم إذا وجدوهم يذهبون إلى المسجد، ولا أظن أن هناك فتنة مرت بالمسلمين أعظم من هذه، ولا حتى في عهد التتار والصليبيين والمغول وغيرهم من العالم المتوحش، يأخذون الناس لأنهم يؤمنون بالله عز وجل! وليس هناك حل لنا أمام هذه الفتن إلا أن نعبد الله على قاعدة صلبة، لا على حرف، وإذا عبدنا الله عز وجل على قاعدة صلبة فإن الله تعالى يثبت أقدام المؤمنين على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أما إذا عبد الناس ربهم على حرف فأصبحوا يأخذون من هذا الدين ما سهل، وإذا صعب عليهم الأمر تركوه؛ فلن ينالوا ذلك الثبات من الله عز وجل.