[تميز عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بالثبات على الدين]
يروى أن عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، وكان من قواد الجيش الإسلامي في موقعة اليرموك، وقع في أسر الروم، وكان رجلاً ذكياً وضيئاً شجاعاً فذاً، بقي في السجن أشهراً، فأعجب السجانون بقوة شكيمته، ووصلت أخباره إلى قيصر الروم، وقيل له: إن في سجنك رجلاً لو ضممته إليك لكان في ذلك مكسباً كبيراً للنصرانية.
قال: ائتوني به.
فجيء بـ عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، فقال له قيصر: يا عبد الله! لو تنصرت لشاطرتك ملكي.
وهكذا تعرض الفتن على القلوب، فالقلوب الضعيفة هي التي تتقبلها، أما القلوب العظيمة فإنها ترفضها رفضاً باتاً.
فقال عبد الله بن حذافة: اخسأ يا عدو الله! -يقول هذا لـ قيصر الروم وهو رجل أسير- والله لو كانت لي الدنيا بأسرها ما تركت شيئاً من ديني! فتعجب من قوة شكيمته، وقال: ردوه إلى السجن وشدوا عليه وثاقه.
فأعيد عبد الله بن حذافة إلى السجن وزادوا في أغلاله.
ثم جمع الملك مستشاريه وقال: دلوني على أمر أفتن به هذا الرجل؟ فقالوا: إنه شاب قوي، بعيد عن زوجته وأهله منذ أشهر، وتستطيع أن تفتنه عن طريق الشهوة.
والشهوة سلاح من أسلحة أهل الباطل قديماً وحديثاً، وها نحن نرى الشهوة تعرض في بلاد المسلمين على أهل الإسلام، فتفتن كثيراً منهم عن دينهم.
قال: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي.
فجيء بها، وأغريت بالمال إن هي فتنت هذا الشاب.
فتجردت عن ملابسها، ودخلت عليه ورمت بنفسها في أحضان هذا المؤمن، فلما رآها صرف نفسه عنها، وأكبَّ بوجهه على الأرض وهو يتلو القرآن، وصار كلما اتجه إلى جهة تابعته بجسدها الرقيق الجميل، وهو ينحرف ويبتعد عنها، وهي تلاحقه، وهو يقول: معاذ الله! فيئست هذه المرأة من أن تنال من هذا الرجل نظرة؛ فضلاً عن أن ينالها بفاحشة.
وقالت: أخرجوني.
فلما أخرجوها قالت: والله لا يدري أأنثى أنا أم ذكر! ووالله لا أدري أعلى بشر أدخلتموني أم على حجر! تعني: أن هذا ليس من البشر الذين عهدتهم يفتنون بجمال النساء؛ وقد كان عبد الله بن حذافة رضي الله عنه من أولئك الرجال الذين يريدون الجنة، ولا تصرفهم عن غايتهم هذه الشهوات.
فتحير قيصر الروم في أمره، واستشار الناس، فقالوا: خوفه بالموت، فكل الناس يخافون منه.
فيقال: إنه طلب قِدراً عظيمةً، ملئت زيتاً، فأوقد تحتها حتى غلى زيتها، ثم قال: ائتوني بـ عبد الله وبأصحابه الذين كان يأنس بهم ويطمئن إليهم، فجيء بهم، ثم أمر أن يؤخذ صديق لـ عبد الله ويبدءون به فيرمى في القدر، فرمي في القدر فطفت عظامه بعد أن ذاب عنها اللحم، عليه رحمة الله -وكان قيصر يراقب عين عبد الله - فسالت دمعة صغيرة من عين عبد الله وهو على حافة القدر، فظن عدو الله أنه نجح في زعزعة إيمان هذا الشاب، فقال: يا عبد الله! جزعت من الموت؟ فقال: اخسأ يا عدو الله! والله ما بكيت حينما رأيتني بكيت خوفاً من الموت، وما جئت إلى بلدك هذه إلا لأبحث عن الموت والشهادة، لكني بكيت على أن سبقني هذا إلى الله والدار الآخرة، وكنت أظن أني سوف أسبقه إلى الله، وكان ينافسني وأنافسه، فكنت إذا صلى ركعتين في جوف الليل المظلم صليت أربعاً، وإذا صلى أربعاً صليت ثمانياً، وإذا صام يوماً في شدة الهاجرة صمت يومين، وإذا صام يومين صمت أربعة، وكنت أظن أني سوف أسبقه إلى الله والدار الآخرة، وبكيت الآن لأنه سبقني إلى الجنة.
إن مثل هذا لا يستطيع أحد أن يؤذيه أو أن يناله بسوء مؤمن يتحدى الخوف من الموت الذي يخاف منه الناس، ويتحدى نار الدنيا، والمنصب، والشهوة التي فتنت كثيراً من الناس، حتى ارتد بعضهم عن الإسلام بسببها.
أيها الإخوة! إن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه بهذه الفتن يميز الخبيث من الطيب، فيخرج الخبيث الذي سوف يذهب إلى النار من الطيب الذي أعده الله عز وجل للجنة، يقول الله تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} [الأنفال:٣٧].
وجميع أنواع الملل قد تختلف في أسمائها، لكنها تتحد في مفهومها: علمانية، وثنية، نصرانية، يهودية، شيوعية؛ فأياً كانت تسميتها فهي تلتقي جميعاً في نار جهنم، وكل أنواع الخبث يركمه الله تعالى في جهنم.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:٣٧] خسروا لذة الحياة الدنيا والتي لا تنال إلا بطاعة الله عز وجل فيها، ثم خسروا بعد ذلك جنة عرضها السماوات والأرض بسبب عنادهم لهذا الدين، ووقوفهم ضده؛ ولذلك يقول الله تعالى: {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:٣٧].