[لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم]
ولا يظن أن الاستغفار كلمة تقال باللسان، بل هو قول وعمل، ولذا نجد أن قوم موسى عليه السلام استغفروا وتابوا وأنابوا ورفعوا أكفَّ الضراعة إلى الله عز وجل أن يكشف ما بهم من أذى فرعون وتسلطه وطغيانه في الأرض، فقضى بنو إسرائيل عمراً طويلاً وهم يقولون: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:٨٥ - ٨٦] فمتى استجيب دعاؤهم؟ لقد استجيب دعاؤهم حين غيروا ما بأنفسهم.
أي: حصل شيء من التغيير في الواقع.
فالأمة الإسلامية تمر بأيام شديدة لابد معها من تغيير شيء من الواقع على مستوى الدول والشعوب، فالدعاء والتضرع وحده لا يكفي، فبنو إسرائيل كانوا يقولون طيلة مدة استعباد فرعون لهم: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:٨٥ - ٨٦].
فعلمهم الله تعالى كيف يتوبون، وكيف يقدمون المال، ويضحون بأعز وأغلى ما يملكون، وحينئذٍ يتقبل الله تعالى دعاءهم، فقال لهم: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:٨٧].
هذه هي التغييرات الجذرية التي كانت السبب في رفع العذاب عن بني إسرائيل، وهي التي سوف ترفع عنا ظلم الظالمين وطغيان الطغاة في أيامنا الحاضرة، فإذا كان أمننا الذي بذلنا في سبيله الغالي والنفيس، والذي نعمنا به مدة طويلة، قد حصل له ما حصل في أيامنا الحاضرة؛ فذلك يتطلب منا توبة وإنابة إلى الله عز وجل، بإصلاح أوضاع البيوت والأسر والمجتمع، وإصلاح أوضاع الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والتنظيمية وغير ذلك، بحيث تكون وفق منهج صحيح.
إن بني إسرائيل لما أمرهم الله بجعل بيوتهم قبلة امتثلوا أمره، وجعلوا بيوتهم قبلة -أي مكان عبادة كالمساجد- من أجل رضا الله عز وجل، ولما نفذوا هذا الأمر من أوامر الله دعوا مرة أخرى، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:٨٨] ومعنى ذلك أن التغيير قد وقع.
ولقد استجيب لهم هذا الدعاء؛ لأنه قد حصل منهم بذل في سبيل الله، وتغيير وضع مألوف منذ زمن طويل؛ لذا قال الله: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:٨٩ - ٩٠] فاستجيبت الدعوة بعد التغيير، وبعد الدعاء والتضرع، أما الدعاء والتضرع وحده فلا يكفي، ولذلك يقول الله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:٥] أقروا أنهم كانوا ظالمين، ولكن بعد أن جاءهم بأس الله.
إذاً: لا بد لتحقيق رفع العذاب من أمرين: الأمر الأول: تغيير أوضاع الناس من سيئ إلى أحسن.
الأمر الثاني: الدعاء والتضرع بين يدي الله عز وجل.
ونحن نطالب الناس اليوم على كل المستويات أن يفهموا أمثال هذه الآيات: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٣].
إن الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا كان الناس يحاربون ويقاتلون أعنف عدو على وجه الأرض، وأعتى جبابرة الأرض، فلابد من تجديد توبة، ولابد من تغيير الأوضاع، فإن الخطر يحيط بالأمة الإسلامية.