[السبب الخامس: توطين النفس على الصبر خاصة عند لقاء العدو]
لا ننسى أن نشير إلى ما قاله الله تعالى واصفاً حال الفئة القليلة من قوم طالوت حين تراءى لهم جالوت ومن معه، فقالوا:{رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}[البقرة:٢٥٠].
وهذا هو السبب الخامس من أسباب النصر، ألا وهو الصبر.
والمسلم لا يتوقف صبره على مواجهة العدو في ساحة المعركة، بل إنه يشمل جميع نواحي حياته في طريق دعوته ودفاعه عن هذا الدين.
ومن أمثلة الصبر في مجال الضغط النفسي الذي يتعرض له المسلم: ما حصل لـ سعد بن أبي وقاص حين أسلم، بينما بقيت أمه على الشرك، فاستعملت هذه الأم كل طريقة لثني ابنها عن اعتناق هذا الدين، فلما عجزت عن ذلك لجأت إلى سلاحها الأخير وهي تعلم مقدار تأثيره على ولدها، فاستغلت حبه لها وبره بها للضغط عليه للرجوع عن دينه، لدرجة أنها امتنعت عن الطعام والشراب، وربطت بين رجوعه عن هذا الدين وبين خروجها من حالة الاضطراب تلك، وخلال ذلك بقي سعد في صراع داخلي بين حبه لأمه وخوفه من أن تهلك نفسها، وبين حبه لدينه ونبيه، والذي لن يتردد في سبيلهما في التضحية بنفسه التي بين جنبيه، فضلاً عن أمه، لكن الصراع بين العاطفة والعقل يغلب فيه العقل حينما يكون الإيمان قد ملأ القلب واستقر في النفس، فقال:(اسمعي يا أماه، والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني؛ فإن شئت كلي وإن شئت فلا تأكلي) فأكلت في آخر الأمر؛ لما رأت عدم جدوى هذه الطريقة مع ابنها المؤمن، فأنزل الله تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:٢]؛ لأن العاطفة في هذا الموقف تعد فتنة {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:٣]، ثم جاء الأمر من الله تعالى بعد ذلك فقال:{وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}[العنكبوت:٨] لكن هذا الإحسان لابد أن يكون له ضوابط، فلا يصل إلى درجة أن يتنازل المرء عن دينه، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[العنكبوت:٨].
فهذه الفتن قد تعرض على نفوس كثير من الناس: فتنة المال فتنة الشهوة فتنة حب الحياة وكراهية الموت فتنة العاطفة فتنة الأهل والقرابة إلى غير ذلك من الفتن التي تُعرض على كثير من الناس وتتكرر، ولا سيما في هذه الظروف التي بات فيها أبناء المسلمين عرضة لهذه الفتن، وربما تعرض الإنسان لموجة عارمة من الفتن: فتنة مع أبيه مع أمه مع أقاربه مع مجتمعه، ولمواجهة ذلك لابد أن يكون هناك إيمان أصلب من العاطفة، حتى لا ينجرف هذا الإنسان أمام العاطفة، والأمة لا تدرك النصر في هذه الحياة -سواء كان نصراً على النفس أو نصراً على العدو- إلا بالصبر، ولذلك قال الله تعالى:{وَاصْبِرُوا}[الأنفال:٤٦] ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:٤٦] وفيه تعليل للصبر يبين عاقبته حتى يسهل أمره.
ومعية الله سبحانه وتعالى هي التي تمهد لكل شيء في هذه الحياة، فإذا كان الله معك وكنت مع الله فإن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.